اتصل بنا
 

"السفير"... رثاء متأخر

كاتب اردني مغترب

نيسان ـ نشر في 2017-01-02 الساعة 02:05

نيسان ـ

لم تكن 'السفير' أيّ صحيفةٍ، حتى يتم رثاؤها بأي كلام. ولم تكن لبنانيةً فحسب، حتى لا ندسّ أنوفنا، نحن غير اللبنانيين، في شؤونها. ولأن الكلام الذي يستثيرُه توقفها عن الصدور، بعد 43 عاماً (العدد الأول في 26/3/1974) من الحضور والتأثير والمقروئية العريضة، كثير، ولأن مقادير وفيرةً من النوستالجيا إلى زمنها الذهبي ربما ستحضر في غضونه، ولأن زوايا النظر إلى مسألة الصحافة اللبنانية عموماً، في راهنها وماضيها، عديدة، فإن إيجازاً في وسعه أن يلمّ بعضاً من هذا كله، إذا ما توقّف عند أمرين:

الأول، لم تتوقف 'السفير' بسبب ضائقةٍ اقتصادية وقعت فيها، تعود إلى شحّ الإعلانات وقلة المبيع ونفوذ الإنترنت وتناقص قرّاء الصحف الورقية. وإنما لأنها، كما زميلاتها البيروتية، ظلت تعتمد، بشكل أساسي، على مصادر تمويل ودعم داخلية وخارجية. وقد عبرت في هذا الأمر في أطوارٍ عديدة، قذّافية وعرفاتية وخليجية وحريريّة وغيرها. ولم يُبدع مؤسّسها وناشرها ورئيس تحريرها، طلال سلمان، ورفاقه، طرائق موازية أو بديلة، توفّر لها مظلة تتوقّى بها نذراً محتملةً في أي وقت، كالتي تسارعت في السنوات القليلة الماضية، ثم أنهت الصحيفة أمس. وقد أجاد المعلق، جهاد الزين، عندما أشار، أخيراً، إلى ما سمّاه 'الكسل التاريخي للصحافة اللبنانية'. ولا يُشار، هنا، إلى الموارد المالية غير الذاتية للصحيفة العتيدة، من باب التعريض بها، بل يجوز الزّعم إن براعةً كانت ماثلةً إلى حد بعيد، طوال عقود، في صفحات 'السفير'، في تمثيل نفسها في المتاح الوفير من استقلاليتها، وفي تظهير حيّزها الخاص، واستثمار هوامش واسعة، تحرّكت فيها الأقلام والآراء والأخبار، إلى حد بعيد، فلم تكن 'آثار' الدعم والتمويل صارخةً أو ظاهرةً بالشكل النافر، وعندما انعدمت هذه البراعة، وصار الوضوح، كل الوضوح، هو المطلوب، ذهبت الصحيفة إلى مآلٍ مؤسفٍ أمس.
الثاني، من الأكرم لصحيفةٍ ذات دور مشهود في الفضاء الإعلامي والثقافي العربي، عقوداً، أن تتوقف عن الصدور، وقد تدنّى مستواها العام في السنوات الأخيرة، ولم تعد تلك الصحيفة الحيويّة الغنية، وأصبح العاملون فيها يغالبون ظروفاً غير طيبة، ويتم الاستغناء عنهم بين نوبة تفنيشٍ وأخرى. كما أن انكشاف الصحيفة التي حملت شعارها 'صوت من لا صوت لهم' في مداهنة أنظمة القمع والاستبداد، بشكل ورّطها في محاباة نظام الأسد في اقترافه جريمة الكيماوي في غوطتي دمشق (مثلاً)، يسوّغ هذا الانكشاف لنا، نحن من أحببنا الصحيفة سنواتٍ، القول الصريح إن 'السفير' توقفت عن الصدور في العام 2011، عندما انحسر فيها الرأي الآخر بشأن الربيع العربي وثوراته، وخصوصاً بشأن الثورة والمحنة السوريتين. ومع التنويه إلى أن الصحيفة أتاحت مساحةً لمثقفين (أدباء وفنانين) سوريين معارضين، في مقالاتٍ لهم، وفي محاوراتٍ معهم نشرتها، قالوا فيها ما يخرج عن الخط العام لها في الموضوع السوري، وكانت مساحةً واسعة نوعاً ما ثم ضاقت، إلا أنها بدت هامشاً لم يقدر على إخفاء مناوأة 'السفير' الظاهر تطلعات السوريين إلى الحرية، وبالدواعي التي ساقها حزب الله ومشايعوه.
ومع احتضارٍ متسارعٍ تكابده 'النهار'، الصحيفة اللبنانية العريقة والأسبق من 'السفير'، يصير وجيهاً السؤال عن أيّ لبنان يبقى، بعد حال الصحافة اللبنانية المتعب والمريض. ولكن هذا الحال مجرّد واحدٍ من تعبيرات بؤس لبنان كله، حيث رثاثة السياسة وركاكتها، وحيث لم يستطع أبناء هذا البلد ونخبته، وطبقته السياسية العنيدة على الانزواء، أن ينقذوا بلدهم من التدهور الذي ما انفكّ يمضي إليه، وبسرعةٍ أحياناً. وإذ ظلّ يقال، عن حقّ، إن 'السفير' كانت منصّةً محترمةً لصنّاع الأدب والفنون العرب، من الأسماء اللامعة، في عقودٍ خلت، فإنها، في سنواتها الأخيرة، لم تعد كذلك، ولم تستطع أن تحمي مكانتها الرفيعة التي استحقتها في زمنٍ مضى، لمّا كانت منبراً ذا أفقٍ قومي عربي واسع، منفتحاً على تعدّد الحساسيات الثقافية والإبداعية. وفي الوسع أن يقال إن 'السفير' كانت ثقافيةً، في ملمحٍ جوهري فيها، لم يقلّ عن اعتباريتها السياسية المعروفة، قبل أن تفرّط في حيثيتها هذه، ثم تذوي، ثم تموت أمس

نيسان ـ نشر في 2017-01-02 الساعة 02:05

الكلمات الأكثر بحثاً