اتصل بنا
 

مجرّد حذاء مهترئ مثقوب

نيسان ـ نشر في 2017-01-03 الساعة 01:45

نيسان ـ

لم يكن مثل حذاء سندريلا الصغير الجميل الذي منحتها إياه جنيّة طيبة، لحظة سحرية مستحيلة، ابتدعتها مخيلةٌ نبيلةٌ تحققت فيها العدالة المشتهاة لصبيّةٍ عانت طويلاً من اضطهاد وقهر. غير أن السحر على جمالياته في الحكاية ذات النهاية السعيدة يظل مؤقتاً ومرهوناً بتكّات ساعة صماء، لن تستجيب لرجاء سندريلا بالتوقف برهة وجيزة إلى حين انتهاء الرقصة، وسوف تمضي، كما هو مقدّر لها حتى ينتصف الليل، وتعود الأشياء حزينةً باهته: ثوب ممزق ومكنسة وانكسار، فيما الذهول واللهفة مرتسمة على ملامح الأمير الوسيم المسكون بالفضول والحيرة بفعل الحضور الآسر للجميلة الغامضة التي سرعان ما توارت مذعورةً مخلّفةً فردة حذاء كريستالي باهر الصنع.
لا أبداً. لم يكن حذاءً سحرياً، بل مجرّد حذاء مهترئ مثقوب بصلافة زمنٍ لا يرحم عند الإصبع الكبير، ظهر في الصورة العبقرية التي التقطتها عين البارع محمد القرالّة في قرية البربيطة المنسية في جنوب الأردن، في أثناء جولاته الإنسانية لرصد أحزان البشر ومعاناتهم في الجنوب المحروم الحزين، في تأكيدٍ جديد على بلاغة وسطوة وشدة تأثير وسرعة وصول الصورة التي اكتسحت الفضاء الأزرق خلال ساعات، في إدانة لنا جميعا من دون استثناء. حدّقت طويلاً في الصورة المؤسفة. وبشكل انفعالي، كتبت بوستاً يعبّر عن غضب واستهجان، انهالت على إثره تعليقاتٌ غاضبةٌ مندّدةٌ بالأداء الحكومي المتعثر. كان من الممكن أن تنتهي الحكاية عند هذا الحد (ويا دار ما دخلك شر) (وكفانا الله نحن معشر الفيسبوكيين المقيمين في سماء الافتراض شر القتال!). غير أن حيرتي، وأنا أعدّ نفسي للخروج في اختيار حذاء أكثر ملاءمة لثيابي، جعلتني أشعر بحزنٍ وأسى كثيرين، وأنا أستعيد صورة قدم الفتى الجنوبي ممزّق الحذاء، فلم يعد ذلك اليوم العمّاني الماطر جميلاً كما توّهمت، فأعلنت، في بوست لاحق، عن مبادرة صغيرةٍ قلت فيها إني ذاهبة إلى السوق كي أبتاع حذاءين هديتين لولد وبنت من الجنوب الأردني. ودعوت الأصدقاء إلى الانضمام، مشترطةً عليهم تقديم أحذية غير مستعملة، بل جديدة لامعة، مثل التي نشتريها لأولادنا في العيد.
مبادرات أخرى عديدة لا تقل أهميةٍ، اندفع إليها مكترثون متحمسون كثيرون، من ذوي القلوب الطيبة الحنونة، ممن لا يهمهم ذكر أسمائهم بتأثير مباشر من صورة الحذاء إياها، نجم عنها تفجّر منابع الخير، مثل شلالات فرحٍ لا ينضب، في عمل جماعي تطوعي بهي، يعيد الأمل إلى النفوس، ويؤكّد على قيم الخير والجمال في نفوس كثيرين، تسابقوا إلى فعل الخير بهمةٍ عالية. كتب أحدهم متسائلاً إن كان بالإمكان الانتظار حتى يستلم راتبه. طفلة اشترت بمصروفها حذاءً وردياً قدمته بكل الزهو الممكن. حالة من اليقين بالجدوى اكتسحت النفوس، ونحن نرقب المخازن وهي تفيض بما تكدّس فيها من بضائع تجاوزت مبادرة الأحذية إلى كل مستلزمات الشتاء. أفراد، مصانع، شركات، الكل بادر وقدّم لنا مساهمةً لم نشأ أن نسميها تبرعاتٍ، بل هدايا قدّمت لمستحقيها، بعيداً عن عين الكاميرا، بما يحفظ خصوصيتهم، ولا يخدش كبرياءهم.
ظهرت أصوات تنتقد وتشتم، وتحمّل المسؤولية للحكومة. بطبيعة الحال، لا أحد منا يبرئ الدولة من مسؤوليتها الجسيمة في النهوض بالمناطق المتروكة المهملة التي تشكل بيئةً خصبة لكل أشكال الإرهاب، تحت طائلة الحرمان والفقر والجهل والحقد الطبقي. لكن، على المواطن المقتدر كذلك أن يقوم بمسؤوليته الاجتماعية تجاه أبناء وطنه، قبل أن يُشهر سهام النقد الافتراضية غير المجدية. كذلك ثمّة أصواتٌ انتقدت تصوير عمليات جمع المواد، مصنفة إياها ضمن باب الاستعراض، غافلين عن أهمية الإعلان من باب توسيع دائرة المشاركة، وتعميم الفكرة على أكبر نطاق، مفترضين أن يتم العمل في الخفاء، ذلك أنهم ما زالوا عاجزين عن الخروج من منطق الإحسان، بمعناه الفوقي الذي يكرّس الطبقية إلى دائرة التفاعل والتضامن الإنساني الفطري.
أياً كان الأمر، وبغض النظر عن تفاوت الآراء واختلافها، فإن الفضل في هذا الحراك الإنساني النبيل يعود إلى الحذاء المهترئ المثقوب للطفل الجنوبي الذي جلب هذا الخير العميم. وبعد هذا كله، كيف لنا أن لا نصدّق أن لهذا الحذاء قوة سحرية بمعنى ما.

نيسان ـ نشر في 2017-01-03 الساعة 01:45

الكلمات الأكثر بحثاً