مخابرات سورية ... وأوروبية
نيسان ـ نشر في 2017-01-04
تفرض نفسها عبارة 'شر البلية ما يُضحك'، فالسخرية وحدها تلطف الألم الشديد. ومثل ملايين من المتابعين للأحداث في عالمنا الذي يغلي بأفظع أشكال العنف، أقارن بين أداء المخابرات السورية وأداء المخابرات (أو الشرطة) في دول أوروبية عديدة. ومنها فرنسا وألمانيا اللتان شهدتا، في العام الماضي، جرائم مروّعة من دهس مواطنين عزّل إلى قتل قسّ في كنيسة (كان قد تبرع بأرض لبناء مسجد) إلى تفجير ملعب وإطلاق النار عشوائياً في مطاعم في باريس.
تتمتع المخابرات السورية بالسلطة المُطلقة، ويشعر كل سوري أنها تقبض عليه من عنقه. ويرتعب كلما اضطر أن يغادر سورية أو يعود إليها، إذ لا يعرف أي تهمةٍ قد تكون فُبركت ضده، ويشعر السوري أنه متهم دوماً من المخابرات، وعليه أن يقدّم براءة ذمة يومياً بأنه مواطن صالح، وشعاره في الحياة 'الحيط الحيط ويا رب السترة'. وكم من مواطن سوري أوقف على الحدود أو في المطار، بتهمة تشابه أسماء، واحتجزته أياماً أجهزة الأمن للتحقيق معه. وبعد أيام، وحين يكتشفون أن ثمّة خطأ وتشابه أسماء، يطلقون سراحه مع 'لا تؤاخذنا'. وأعرف مئات من هؤلاء المنكوبين قرّروا العودة من حيث أتوا، مضحّين بلقاء أهلهم، وتاركين بلدهم في قبضة الأمن.
لا تفوّت السلطة اللامحدودة للمخابرات السورية شاردة أو واردة، وأنا ممن لم أسلم من تحقيقاتهم، منعوني من السفر إلى البحرين، وأجبروني على مراجعة فرع أمن الدولة في دمشق (مع أنني أسكن اللاذقية)، ولا أعرف التهمة حتى اللحظة، لكن المحقق قال لي غاضباً: أنت تكتبين مقالات في جرائد معادية لسورية، وتنشرين الغسيل الوسخ. فقلت له إنني أفهم الكتابة بأنها نشر للغسيل الوسخ، كي ننقّي حياتنا من الأخطاء. واضطررت، لأحمي نفسي، ولخوفي من ألا أخرج من فرع أمن الدولة، أن أستشهد بقول حافظ الأسد: السكوت عن الخطأ مشاركة فيه. ويا للتأثير العجائبي لهذه العبارة. خرجت أدندن بأغاني الفرح بأنني لم أعتقل. بل في اليوم التالي كتبت مقالاً عن شجرة الفتنة الرائعة في حديقة فرع أمن الدولة، وكنت قد شعرت بالدهشة والصدمة إذ كيف تجرؤ شجرة الفتنة هذه على أن تنمو هناك.
لا يوجد نشاط ثقافي أو اجتماعي في سورية إلا ويحتاج لموافقة الأجهزة الأمنية، وأذكر أنني قدمت محاضرة في المركز الثقافي في اللاذقية (قبل بداية الثورة) عن الأدب النسائي، ويبدو أن عنصري الأمن المُكلفين بحضورها وكتابة تقرير عنها لم يتمكّنا من الحضور، لأسباب
'الفرق شاسع بين سلوك المخابرات السورية وتلك التي في ألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، كما المسافة بين الأرض والسماء' أعاقتهما. ثم فوجئت بعد ساعتين، في عيادتي، بدخول شابين مذعوريْن، طلبا مني أن ألخص المحاضرة، لأنهما من المخابرات ولم يتمكّنا من الحضور. حتى السفر وتقديم طلب إجازة إدارية لموظف أو طلب استقالة يحتاج موافقةً أمنية، من دمشق تحديداً، وقد ينتظر المواطن أياماً طويلة، وربما أشهرا، لكي يحصل عليها. باختصار، يشعر كل سوري أن عنصر أمن يشاركه العيش في بيته، أو بفرع مخابرات صغير محفور في دماغه، حتى أن أسرا كثيرة تصرخ بأولادها بأن يُخفضوا صوتهم، وهم يتكلمون عن فظاعات الأمن بأن للجدران آذانا.
عجيب أداء المخابرات الفرنسية والألمانية (مثلا) الرحيم، وغير المنطقي، فكل الذين ارتكبوا عمليات إرهابية في فرنسا أو ألمانيا كانت لهم سوابق جنائية وإجرامية والدولة على علم بها، ومع ذلك، ظلوا طليقين، يتنقلون من دولة إلى دولة. وأسخف حجة قرأتها أن المجرم المشتبه به (الطليق طبعا) يضعون في يده إسوارة معينة تدل على مكانه، ويبدو أنها تزيينية، فمن قتل الكاهن العجوز في الكنيسة كان يلبس الإسوارة، وارتكب جريمته من دون أن تفيد الأجهزة الأمنية بشيء. كيف يمكن تبرير بقاء هذا المجرم طليقاً بتنقلاته ولقاءاته مع العقول المدبرة، ويكون الحل الأمني والتفكير المخابراتي الفرنسي بأن يضعوا في معصمه إسوارة تدل على مكانه. وكانت لمن دهس بشاحنته أكثر من مائة شخص في مدينة نيس سوابق إجرامية كثيرة، ومع ذلك أطلق سراحه القضاء الفرنسي. وكم بدا مضحكاً وسخيفا لكثيرين اقتحام نحو ثلاثمئة عنصر أمني مسلح في الرابعة فجرا منزل شقيقة المجرم الذي ارتكب التفجير في ملعب باتلاكان في باريس، واستغرق الاقتحام ساعات. ورجحت معظم الصحف الفرنسية أن المرأة هي من فجرت نفسها. لو أن هذه المشكلة في سورية لكان الحل يستغرق ثانية واحدة (لا مبالغة)، يقصفون البناية التي تسكنها أخت المجرم ببرميل متفجر وينتهي الأمر. ويكون كل سكان البناية شهداء.
على أي أساس يتم إطلاق سراح هؤلاء والسماح لهم بالتنقل من دولة إلى دولة، بينما القوانين شديدة الصرامة، حين ينتقل طبيب مثلاً حاصل على تأشيرة إلى السويد، ليقيم ويعمل في فرنسا، لا تتوانى السلطات الفرنسية عن إعادته إلى البلد الذي أعطاه التأشيرة خلال 48 ساعة، كما لو أنه المجرم.
الفرق شاسع بين سلوك المخابرات السورية وتلك التي في ألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، كما المسافة بين الأرض والسماء. وكان صديق جاداً في مزاحه بقوله إن على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إرسال عناصر من مخابراتهم، ليتم تدريبهم في سورية، حيث كل مواطن مُتهم حتى يثبت العكس.