اتصل بنا
 

الأخير هو الأول

نيسان ـ نشر في 2017-01-14

نيسان ـ

أذكر أنني منذ العديد من السنوات شاهدت في باريس عملا فنيا يُطلق على نوعه اسم “الفيدو آرت”. العمل كان للفنان بيل فيولا. العديد من الشاشات ظهر فيها بشكل غير واضح إنسان/غواص يدخل إلى عمق البحر ويخرج منه جزئيا.

وفي كل شاشة كانت الألوان تختلف والأصوات تختلف، وكانت الصالة فارغة وواسعة وتغرق في عتمة كاملة. قد يبدو هذا الوصف الذي أقدمه عن هذه التجربة الفنية متقشفا ومذهولا بعد مرور سنوات على اختباره.

ومع ذلك، كان أثر هذا العمل في نفسي بليغا، وقد اجتاحتني لحظتها أحاسيس عميقة يصعب عليّ تحديد ماهيتها، ولكنها من المؤكد لم تكن قادمة من الخارج، من شاشات بيل فيولا، بقدر ما كانت قادمة من داخلي وربما من داخل كل فرد اختبر التجربة بشكل مختلف أمام شاشات الماء المضيء بغواصه.

من أعمال “الفيديو آرت” اللاحقة والمؤثرة، التي أجد فيها يوما بعد آخر ما يشبه التبصّر بما كان سيحدث لاحقا، هو “الفيديو آرت” الذي قدمته الفنانة التركية هال تينغر الذي يصور واجهة فندق السان جورج الشهير في بيروت والذي لم يرمم بعد الحرب اللبنانية، ولم يُهدم ولم يقرر مصيره لأسباب معروفة.

صورته الفنانة بشعرية كبيرة لا تخلو من برودة قاسية. اللقطة الأولى كالثانية طويلة وثابتة في المشهد. تتحرك ستائر الفندق من خلال النوافذ المُخلعة والزجاج المتكسر. أما اللقطة الثانية فهي ذاتها، ولكن لحظة وعقب الانفجار الإرهابي الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري.

المشهد المشغول بدراية يحيل المشاهد إلى معنى “العدم/أبوكاليبس″ الذي يتلوه انفجار نووي لا نهاية لأثره، وترافق المشهد أصوات سيارات الإسعاف وموسيقى خافتة تضرب على أوتار القلب والعقل.

اليوم وأمام العدد المتصاعد لأعمال “الفيديو آرت”، وطبعا أقصد المهمة منها فقط، وأخص بالذكر معظم الأعمال التي قدمتها الفنانة الفلسطينية الأصل واللبنانية المولد منى حاطوم، وبعض أعمال الفنانين اللبنانيين وليد صادق وعلي شرّي وفؤاد خوري والفنان الفلسطيني/العراقي جلال توفيق، يظهر أكثر فأكثر “الفيديو آرت” كانطلاق من حاجة فنية وتعبيرية مُلحة لاقت في السنوات العشر الأخيرة سبل تحققها من خلال تطور تقني متسارع لآلات التصوير والتوليف البصري والسمعي والعرض الفوري، واعتماد المؤثرات البصرية والسمعية وفنون الإضاءة.

وعلى الرغم من أهمية الفنون التي يمكن تسميتها بالتقليدية كفنون الرسم والنحت، ظهر “الفيديو آرت” كضرورة تكشف النقاب عن إلحاح الهواجس الإنسانية ذاتها التي عرفها الإنسان القديم.

أعادها إلى الصدارة معتمدا (كما في الزمن السحيق) على قوة الإشارات وسرعة ومضها أكثر من اعتماده على الصور التي لا تشير إلا لذاتها، مهما كانت تحمل من بصمات الفنان الصانع لها، ورغم أن هذا الفن يُعتبر ما بعد حداثي تقنيا ومفهوميا بشكل خاص، فإنه يحيلنا في حقيقته إلى فكرة أن إنسان الزمن الغابر هو ما بعد الحداثي “الأصلي”.

إنه الفن الذي أبدع لغات مبنية على رموز بصرية وصوتية مُعقدة، لغات تداولها الجميع وهي في “هلاميتها”، إذا صح التعبير، كانت تنقش على الحجر وتُخط على جدران الكهوف السحيقة كفعل صلاة أو انتصار افتراضي على الجوع، على العطش، على الحيوانات المفترسة، وعلى المجهول الذي لا يُرى.. على الخوف بكلمة واحدة.

إذا كان الإنسان القديم تعاطى الإشارات والرموز وآمن بالسحري وجزع من اللامرئيات وهو شاعر بحضورها وتأثيرها القوي على مسار حياته، فإنسان اليوم ومن خلال الفنون التي يتبناها كفنون “الفيديو آرت” الضاربة في اللقطات المتفككة وخاصيات الومض والإشارات المدوية بصمت، هي ناطقة باسمه وحاله المعاصرة، وهو بها لا يقل عن الإنسان الأول في شيء البتة، فقط التسميات اختلفت، ولكن الخوف واحد والصراع واحد والمصير واحد.

نيسان ـ نشر في 2017-01-14

الكلمات الأكثر بحثاً