اتصل بنا
 

عن خالتيّ نور الهدى وصباح

نيسان ـ نشر في 2017-01-18

نيسان ـ

أولَ مرةٍ ركبتُ فيها الطائرة، كنت في سنتي الجامعية الأولى، في كلية الفنون في الجامعة اللبنانية. وكان الأمر مفرحاً حدّ الغثيان. ذهبتُ للمشاركة ممثلةً في أحد المهرجانات المسرحية الجامعية الشبابية، وقد اقتضى الأمر مفاوضاتٍ ومناقشاتٍ مطوّلة، لكي تمنح أمي موافقتها الرسمية التي لم أتحصّل عليها، إلا بعد تنفيذ شرطها الأخير: أن يأتي المخرج، وهو الممثل المسرحي والتلفزيوني والنجم الأشهر في لبنان، إلى بيتنا، كي يطلب منها شخصياً الإذن. وهكذا كان.
إلا أن أمي، حين جاء، لم تشترط عليه شيئاً، حتى أنها لم تسأله عمّا ينبغي لها أن تسأل عنه كأمّ، بل إنها تحدثت إليه بكل شيء آخر، باسمةً، شبه مغازِلة، حتى شككتُ أنها ربما اشترطت مجيئه فقط لكي تراه عن كثب، ولكي تفاخر ربما بأنه زارها ورجاها أن تسلّمه ابنتها، أنا، ابنة الثامنة عشر عاماً، كي تسافر معه. في نهاية اللقاء، أوقفته طويلاً عند الباب، علّ أحد الجيران يمرّ ويراهما. وحين أقفلت الباب، ومشينا في ممرّ بيتنا الطويل عائدتين إلى غرفة الجلوس، غمزتني بطرف عينها، سعيدةً منتشية كما لم أعهدها من قبل، كأنها تشير إلى أننا حققنا للتوّ نصراً مبيناً سيدخل سجلات التاريخ، فها هي ترسلني في سفرتي الأولى لقاء ثمنٍ مرتفع، أي مرغوبةً ومعزّزة مكرّمة، مرفوعة الرأس.
'فاوضت' أمّي النجمَ المعروف، كما لو كانت تفاوض لنفسها، هي التي كان حلمُ التمثيل بالنسبة إليها حُلماً كاد أن يتحقق: أن تصبح من أشهر ممثّلات مصر ومطرباتها. فهي على قولها، كانت موهوبةً حسنة الصوت، بقدر ما كانت عليه مواطنتها نور الهدى أو صباح، وجميلة الملامح والعينين إلى درجةِ تشبيهها بليلى مراد. صحيحٌ أنها لم تكن طويلة القامة، لكن ذلك ما كان عائقاً بالفعل، إذ كانت من طول فاتن حمامة وشادية وماجدة وسواهن. وإذ ترى شكّا يلوح في عين مستمعها، كانت تسارع إلى دعم أقوالها بالبراهين: في كل عام، كان يُقام في قريتها تكريمٌ كبير لجبران خليل جبران، يدعى إليه كبار الأدباء والشخصيات، وقد طلبت اللجنة المنظّمة إليها أن تغني، فقبلت شرط ألا تظهر على الحاضرين. وهنا، تبدأ أمّي تشرح كيف صارت تتناهى إليها أصواتُ التكبير مختلطةً بالآهات، وكيف أهدى إليها كبار الأدباء كتبهم، والتقت هناك بأحد المخرجين المصريين الذي أصرّ أن يقابل أباها عارضاً عليه أن يتبنّاها فنّيا ويصحبها، ووالدها معها بالطبع، إلى مصر.
تقول والدتي إن ساقي جدّي قد اصطكتا حين سمع بالمبلغ المعروض عليه، لكنّ جدّتي، على ضعفها وتعقّلها، استشرست وانبرت له قائلة: لا تسافر البنت إلى أي مكان، حتى ولو كان السيد المسيح بنفسه هو من سيرافقها.
روت أمي لي ذلك مراراً وتكراراً، وعلى مراحل مختلفة من عمري. وفي كل مرة، كنت أستمع إليها بانتباه، كأنها المرة الأولى، بل إني كنتُ حتى أطرح عليها الأسئلة في كل مرة، كمن يريد الاستزادة لكثرة استمتاعه واندهاشه بما ترويه. صغيرةً، كنتُ أفكّر أنها ولا بدّ تبالغ، لا بمعنى أنها تكذب، فقد كانت جميلة فعلاً، وذات صوت جميل، بل لأنني لم أكن أرى في عينيها حسرة أو غصّة من فاته حلمُه. وحين تجرّأتُ لاحقاً وسألتها، ولمَ رضخت بهذه السهولة، ولم تقاومي وتذهبي، طالما كان جدّي شبه قانع، ضحكت وقالت: وكيف كنت سأتزوج أباكم، وتكونون أنتم أولادي لو ذهبت إلى مصر؟
لم تكن والدتي ترغب فعلاً بتحقيق حلمها ذاك. كانت تريد أن تبقيه حلماً تحلمه متى شاءت، نافذةً مفتوحة لروحها، تطلّ على ما يحملها بعيداً عن هموم البيت والزوج والأولاد. وبهذا، كانت كالسواد الأعظم من الناس، تحتاج ريحاً تهدهد بها أرجوحة أفكارها وتنسيها، لوقتٍ، دورانَ عقارب الساعة أمام مشهد حياتها الرتيب.

نيسان ـ نشر في 2017-01-18

الكلمات الأكثر بحثاً