محمد شكري وتراب أسمهان
نيسان ـ نشر في 2017-01-20 الساعة 02:17
أن تكتب هو أن تكون لك زاوية ألمٍ ما، زاوية فيك لا يراها غيرك، ولا تؤلم أحداً غيرك. كان محمد شكري صاحب عرفانٍ بمن تألموا وتألم معهم، تألموا بالفقر والحاجة، ممن عرفهم في فتراته العصيبة وأيام شظفه. عرفان ممتزج بقسوة أحياناً كما في 'الخبز الحافي'. كان يتدارى من الوجوه المحتاجة، إن مرّ بشارعٍ فيه أحدهم، فكان يغيّر الطريق أو يظل حبيساً، كي لا يرى في عيونهم حاجةً لا يستطيع أن يلبي لهم ما يسند عوزهم.
كانت ذاكرة شكري مليئةً بالآلام التي عاشها، وكيف يهرب صاحب الآلام من متألمين وأصحاب حاجة. شكري حدّد زاوية كتابته مبكراً، قبل بول باولز، لأن زاوية الألم هي زاوية الكتابة، والشكل عند النجّار والتجّار أيضا. لم يكن شكري معنياً بالشكل أو الفصاحة أو البلاغة أو التأريخ. كان مخلصاً فقط لزاوية ألمه، وترك (الترزية)، من خلفه، يترجمون الألم حسب هواهم. شكري غلب الجميع بآلامه وزاوية رصده الحادة.
في ليلةٍ، كان الصديق الروائي العماني الراحل، علي المعمري، سهران مع شكري، وكانت الموبايلات حديثة العهد، وكنت قد كتبت مقالاً عن 'تراب أسمهان'. قرأ شكري المقال، وقال لعلي المعمري: هذا الرجل قريب مني ومن ألمي. فتح علي المعمري الخط وناوله لشكري، تكلمنا قليلاً وقال: أنت قريب. قلت له: دائما أتكلم مع فاروق عبد القادر عن كتاباتك. قال: كل من فيه من رائحة من فاروق قريب لي. ثم أكمل: والآن، نعيد العدة لأصحابها، فلا حاجة لنا بها، وبلغ سلامي لفاروق. قلت لعلي: هل طلب منك شيئاً غير تراب من قبر أسمهان؟. رد علي: أبداً. لا يطلب محمد شكري شيئاً أبداً، وكان غريباً أن يطلب هذا الطلب. المهم أن علي المعمري ذهب إلى مقابر البساتين، ووفّر من قبر أسمهان حفنة من تراب، وسافر بها إلى المغرب. أتذكّر أن تلك الأيام كانت بعد أحداث ضرب برجي نيويورك بشهور.
تأملت طلب شكري، وتأملت هذا الفقير المتألم في طفولته، كيف له أن يذوب أسىً في تراب أميرة درزيّة من جبال لبنان، غنّت وأحبت وعشقت، وكان لها العشّاق من كل صوبٍ وملّة ودين، وماتت من ستين سنة أو أقل؟
ما كل هذا العذاب الدفين ما بين ضلوع صعلوكٍ يكتب ويفتح زاوية ألم حادّة على عذاب أميرة درزيّةٍ ماتت من ستين سنة. كان شكري يكاد أن يكون متخلصاً من هموم الأيدولوجيا وتبعاتها. كان شكري نزيهاً مع ألمه. كان صعلوكاً في روح أمير، أمير لا تبدو عليه أمارات الأسى إلا لصالح ما يحبه. ولذلك، انعتق شكري من مذلة الأيدولوجيا وفقرها ونكدها وخدمتها المملّة، وظل مخلصاً للكتابة وحدها. الكتابة في عريها وشظفها وحيلتها وحدها، من دون بلاغةٍ أو تماحكٍ في القواميس. شخص خرج للكتابة بألمه، واستمر حتى مات.
دائماً في حوزة كل كاتب جواز مرور للكتابة، جواز من خلال التلمذة، أو اعتناق أفكار، أو الدقّ على باب حزب، أو عضوية لجانٍ أو مؤسسة داعمة. كان شكري ابن ألمه، وابن شارعه، وابن مقهاه، وابن هواجسه، وابن أمراضه وقسوته وهروبه من الحياة الأسرية والاجتماعية، وعدم قدرته على تحمل تبعاتها وواجباتها وسجنها القاسي. ولذا، أخلص للهامش الحر، الهامش المنفلت، الهامش الراكد في الألم، وظل منصتاً له.
كتب شكري من خلال العصب العاري لشخصه. مرّت السنوات، ولم تجد الكتابة العربية صعلوكاً يكتب على شاكلة شكري إن استطاع، لأن شكري لم يكن يكتب على شاكلة أحد. كان يتبع هواه. لم يكن عبداً لشكل أو لمنهج. كان مع زاوية ألمه فقط، حتى وإن كانت هذه الزاوية تحنو على أميرة درزيّة تغني وتسهر وتغوي الملوك والنبلاء، وماتت من ستين سنة ودفنت في 'البساتين'. كانت تغني للقهوة، وكأنها تغني للعذاب أو الدمع. كانت القهوة في يد أسمهان حنونةً، أو كأنها كانت تشتاق فم شابٍّ معذبٍّ من طنجة سيصير كاتباً بعد موتها بعشرين سنة، ويحنّ للقهوة في صوتها، بل ويكاد أن يكون قد شرب الحزن والقهوة والأسى من عينيها، وأحزان حنجرتها المليئة بالغواية، ويطلب من رحّالٍ ومغتربٍ عمانيٍّ من آخر حدود بلاد العرب، أن يأتي له بحفنةٍ من تراب قبرها في 'البساتين'. نعم الكتابة زاوية ألم خاصة بصاحبها وحده.


