بعض الكلام عن نجاة
معن البياري
كاتب اردني مغترب
نيسان ـ نشر في 2017-01-21 الساعة 01:34
لم تعد نجاة الصغيرة، بالضبط، إلى الغناء، في مفاجأتها 'كل الكلام'، قبل أيام. أرادت، ربما، إطلالةً، بالصوت فقط، على زمن الرداءة الوفيرة الراهن، من زمنها هي، وقد كان ذهبياً للأغنية العربية، على ما يوصَف عن حق. قرأنا أن العمل على إنجاز هذه الإطلالة استغرق نحو عام، وأنتجته شركة مزّيكا، ثم أشهرتْه، لا لشيء إلا لنسمع نجاة تغني في عامها الثمانين. ولكن، لا لنراها إلا بأناقتها التي نعرف، وبدفء حضورها البديع، وبشبابها الذي لا يُغادرنا. ومن قال، أصلاً، إن أحداً منا يودّ رؤية نجاة، ذات البهاء السخيّ والباقي، في شيخوختها. سمعنا 'كل الكلام'، فتأكّد لنا أن صوتها لا يشيخ، وأنه مقيمٌ على الحنان الغزير فيه، وعلى التمهّل المطبوع به. كتبوا أنها اعتزلت منذ 15 عاماً. ولكن، من في وسعه أن يعتزل السماع إلى 'صاحبة السكون الصاخب'، كما وصفها محمد عبد الوهاب، ولم يكن موفقاً تماماً، وظلّ الأجمل من كثيرٍ لقّبت ووصفت به تسمية كامل الشناوي لها أنها 'الضوء المسموع'، فصوت نجاة مضيء حقاً، يبعث فيك عندما تسمعه بعض نورٍ في حواشيك، أياً كان مزاجك.
توسّل السعودي طلال، بالأورغ والكمنجة والبزق والقانون في تلحينه الأغنية، وكذا يحيى الموجي في توزيعها. جاء اللحن متقشّفاً بعض الشيء، لا تنويعات متتابعة فيه، ولا تحليق لصوت المغنية فيه. ثمّة الهدوء الدافئ في نحو ثماني دقائق، كأن المُراد أن تسلّم علينا نجاة، ثم تستأذن ثانيةً بالانصراف. يستثير سماع هذه الأغنية في الوجدان والروح رغبةً بالسفر إلى كل نجاة الصغيرة، ولمّا كانت من كلمات الراحل عبد الرحمن الأبنودي، فذلك ما قد يأخذنا إلى 'عيون القلب' أيضاً (لحن محمد الموجي)، بل إلى كلمات الأغنيات عندما يكتبها شعراءُ مجيدون، ولا نظن أن نزار قباني جامل نجاة، لمّا قال إنها الأفضل من بين الذين غنّوا قصائده، وعبّروا عنها.
ثمّة حنانٌ خاص في صوت نجاة، لا تزيّد (أو لا شطط؟) في الزّعم، هنا، إن مقاديره الوفيرة لم تتوفر عند غيرها. ومن غريبٍ في سيرتها الفنية أنها كانت كلثوميّة الهوى، وأنها، في طفولتها ويفاعتها الأولى، كانت تقلّد أم كلثوم، وتشتهي أن تصل إلى شهرتها، غير أن صوتَها لا يناسبه أن يصير كلثومياً، فليست 'القوة' من خصائصه وميزاته، وإنما البساطة الليّنة، الأقرب إلى فيروزياتٍ بعيدة. ومن طرائف كاشفة أن عبد الوهاب تقدّم، في بواكيرها، بشكوى في مركز شرطة على أسرتها، لأنهم يفرطون في تدريبها على الغناء، فقد كان يرى أن ذلك التدريب يعرقل عملية النمو الطبيعية لصوتها، وينبغي أن تُترك نجاة، الصغيرة أيامها، لتتطوّر بنفسها بشكل طبيعي من دون تلك التدريبات. وربما تُسعف تلك الواقعة في تعليل البساطة الضافية في غناء نجاة الذي يتوازي التطريب الخفيف فيه مع قيمة الغناء العالية، بوصفه غناءً عندما تسمعه يتوجّه إليك كلك، إلى جوانحك ووجدانك، لا إلى أذنيْك فحسب.
شاميّة دمشقية، مصرية الأم والإقامة والنشأة، صوتٌ بلا شبيه له، يدلّ على صعوبة تقليده أن الهواة في برامج المنافسات الرائجة (لبعضهم وبعضهن أصواتٌ رائعة) لا يُقدمون على تأدية أغنيات نجاة، إلا نادراً، وربما يتهيّبون منه، ذلك أن منسوب الدفء العالي في هذه الأغنيات (وبعض الطقطوقات) ليس من الهيّن أن يبلغْنه من لا يتوفّرن على خامة صوتها المتمايز كثيراً، والرهيف كثيراً، والذي يحتاج الشعور به قسطاً من الحساسيّة. ولا غلوّ في زعمٍ آخر، هنا، أنه إذا كانت أم كلثوم كوكب الشرق، فإن نجاة الصغيرة كانت كوكباً أيضاً بين نجمات زمنها المغنيات.
ليس كل الكلام عن نجاة ممكناً هنا، الفنانة التي وقفت على المسرح أول مرة في 1942، ثم لفتت موهبتها الانتباه، فبدأت حضوراً في السينما، منذ 1947. لم تبرع ممثلةً، وإنْ أبدعت مغنيّة في أفلامها. هل يُنسى 'سبعة أيام في الجنة' (1969) مع أمين الهنيدي، تغنّي، وتشيع البهجة والفرح، بإيقاعاتٍ وألحانٍ رحبانية ولعبد الوهاب وسيد مكاوي؟ كل ذلك الحنان في أغنياتها، وكل تلك البهجة في أفلامٍ بعيدة، هو ما يحضر عند سماعك نجاة الصغيرة في إطلالة صوتها الجديدة، أما الأغنية نفسها فقصةٌ أخرى.