اتصل بنا
 

عن ضرورة الصبر والأمل

نيسان ـ نشر في 2017-01-24

نيسان ـ

أعود من مشواري الصباحي، وقد خلعت القبعة الصوفية التي ارتديتها بلا أي داعٍ، ذلك أن السماء ضنّت من جديد بالمطر المرتجى، على الرغم من البرد الشديد الذي يقص العظم ويكسر المسمار، كما يقولون في الدارجة الشامية، تدليلاً بليغاً على قسوة البرد وشدة لؤمه في هذا الوقت من السنة، حيث الهواء جاف جلف شحيح معادٍ، على نحوٍ ما، لا يحمل وعداً، ولو بسحابة مكتنزة ضلت طريقها كي تهطل على أرواحٍ هدّها الظمأ. جاري الكهل الطيب الذي يغيب أياماً كثيرة في مزرعته الصغيرة في منطقة الغور، ويحضر لي أحيانا بعض حبات البندورة الشهية التي تشبه مذاقاً قادماً من زمن الطفولة البعيد الحر تماما من شبهة الكيماويات، يفرح كثيراً حين أتغزّل بذلك المذاق الفريد. يرد بزهو معلوم: 'يا عمي، ما في أحسن من زمان وأيام زمان، سقا لله'. قال، وهو يفسح لي الطريق، مبتسماً: 'ضروري المشي في هذا الطقس البارد الجاف، بكره بتمرضي يا بنت'. يُردف بأسى أن 'ذلك غضبٌ من الله، يا بنيتي، بلغنا سعد سعود، ولا قطرة مطر تبلل رمق الأرض الجاف. بعد قليل، يهل علينا سعد الدابح ولا مطر'. أتحمّس، حين يشرح لي التقويم الريفي لحالة الطقس الحافل بالمفردات الشعبية ذات الدلالة، مثل المربعانية وسعد سعود وسعد الدابح.
يقول الختيار، وهو في طريقه إلى صلاة الجمعة: 'ذبحنا الغلاء، يا عمي، والحكومة ترفع الضرائب. كان الله في عون الناس'. أغلقت باب البيت، وأنا أهمهم بكلماتٍ لا معنى لها عن ضرورة الصبر والأمل. أهرع إلى الكمبيوتر، أذرع المواقع، بحثاً عن فكرةٍ ما تصلح لمقال أرسله صباح السبت إلى معن البياري الذي يتذمر أحياناً من إغفال معظم الكتاب حرف الهمزة. يستقر بي الحال في موقع 'فيسبوك' على فضائل كثيرة يعجّ بها الموقع المحتشد بسكانه من المنظّرين الطهرانيين كاملي الأوصاف (!). وموقع 'يوتيوب' يقرّب البعيد واتفرج يا سلام. كل ما يخطر ببالك رهن كبسة زر.
بحثت عن محمد رشدي، صوته يوقظ الحنين إلى أزمان غابرة، وهو يردّد 'ميتا أشوفك يا غايب عن عيني، قتالة الفرقة والله وغيابك عن عيني'. الشيخ أحمد هليل يقدم خطبة سياسية غير عصماء في جموع مصلي مسجد الملك عبدالله، يقرّع الناس على عدم صبرهم في الشدائد. يستجدي دول الخليج، قائلا أين أموالكم؟ يثير موجة غضبٍ غير مسبوقة. يسأل كثيرون بأي حق يا شيخ؟ أعود، على استحياءٍ، إلى القنوات الإخبارية بعد مقاطعةٍ طويلة، يتأهبون لبث حفل تنصيب دونالد ترامب رئيساً لأميركا في حفل مهيب. يتوقع الجميع قيامه بتصرفاتٍ طائشة حمقاء خرقاء بحكم العادة، لكن ذلك لا يحدث. تتابع الشعوب في كل بقعةٍ محتويات كلمته التي تشي بالفوقية والعنصرية وجنون العظمة، غير أنه يلقيها بتمكّن وإتقان، مستعيناً بخبرته التلفزيونية ومواهبه الدرامية، ليعلن أن الكرة الارضية منذ الآن في خدمة الحلم الأميركي الذي يمثل كل معاني الخير والتحضّر، في مواجهة رعاع العالم. قال كل هذا الكلام البذيء، مندّدا بكل من سبقه من إدارات، وصنّفها عهود ظلام وفساد، وأعلن، باعتباره باباي الرجل البحار، بصوته الأجش وغليونه الشهير، بعد أن تناول كمية كبيرة من السبانخ، أنه بصدد إنقاذ أميركا من كل الشرور، بتسريحة شعره الكثيف المزروع المستفزّه، وربطة عنقه الحمراء.
في خضم كل هذه التفاصيل، كنت أرقب، بعين الغيرة والحسد غير الدفين، هذه الجاهزية العالية، والتنظيم رفيع المستوى للحفل، على الرغم من الحشود الغفيرة التي أمّت مبنى الكونغرس وضواحيه، وكذلك الإجراءات السلسة في انتقال السلطة، من دون سفك قطرة دم واحدة، على الرغم من الغضب الكبير في نفوس كثيرين. والكل يعلم أن الدم سيسفك بغزارة، فداءً لديمقراطيتهم في بلدان العالم الأقل حظاً بالضرورة.

نيسان ـ نشر في 2017-01-24

الكلمات الأكثر بحثاً