اتصل بنا
 

فتحي عبد الله وثلاث مراوغات للكبد

نيسان ـ نشر في 2017-01-27

نيسان ـ

للمريض شعره وحقله، وللأكباد غُصّتها وآلامها، وللصداقة حقلٌ شاسع يمتد من المقهى حتى بولاق الدكرور أو السيدة زينب، مروراً بشارع محمود السميعي أو بمقهى البستان أو بمقهى الحرية أو بمقهى حلوان. المهم أن تكون في المقهى 'شيشة'، وجمرات نار تتألق تحت 'الماشة'، وعامل طيب يجلب النار للحجر. بعدها أترك فتحي عبدالله للحكاية، تتألق عيونه مع الجمر، ويصير المقهى نادياً للفرح، ويصير مبسم الشيشة خلاصه الأخير، وتصير الحكايات الفرس والناقة والوزن والقافية والنثر والشعر وخراب الأحزاب من مسقط حتى مراكش. والحكايات تصير جمراً، والأحجار تتوالى، وعيون فتحي تتنمر فرحاً في ألق الصداقة والحكاية، وتصير القاهرة كلها، بنيلها وفنادقها وسفائنها ودسائسها، مثل حجر شيشة على الطاولة، ويصير المبسم ناياً، حتى تخبو النجوم ولا يتململ أبداً، وكأنه فلاحٌ ينتظر الموت من قرنٍ ولا يأتيه.
هل أبدأ من كبد أسامة خليل، وهو أول كبد فقدناه، وأشرس من أحب فتحي عبد الله. كان يدعونا 'أن تعالوا خلاص ناكل آخر أكلة'، فنذهب إلى السيدة نعد الطعام، وأسامة مريض، نأكل، حتى تقفز الشيشة في عيون فتحي. يشتم أسامة الشيشة، ويصر فتحي، أنترك المريض؟ يخرج أسامة معنا متسانداً إلى المقهى، وتبدأ الابتسامة في العودة إلى وجه أسامة على المقهى، وأقول أنا الذي ليس لي تعامل مع الشيشة 'روّق يا أبو أمير'، فيبتسم أسامة، ويطلب، هو الآخر، شيشة، وأتفرج على القلوب، حينما تتواشج ألفةً في التناقض الذي زال بمجرد الجلوس على المقهى، وتبدأ الحكايات، حتى تتعب النجوم من المعسل والجمر والدخان، حتى يأتي اليوم الذي يقال لي: تعال.
في ذلك اليوم، سبق فتحي الجميع إلى المستشفى، وقال لهم الاسم 'أسامة خليل'، فلم يجدوه في الكشوف، فأشار عليه موظف الاستعلامات أن يدخل الثلاجة، فدخلها. لمح الأول والثاني والثالث، وكان الرابع هو أسامة، وقد تغيّر وجهه قليلاً بعد الموت بساعات. وقع من الثلاثة أكباد كبد. كبد أسامة، وكان أكثرنا طفولةً وأقلنا مكراً، وأكثرنا هجوماً وشراسة، على الرغم من أن الأكباد الثلاثة جاءت من بلاد فلاحين. مات أسامة، وفقدت، أنا وفتحي، ذلك الضلع الأليف لنا. بعدها بأيام رقدت أنا بالكبد في مستشفى إمبابة العام. في اليوم التالي، وجدت فتحي بجواري يضحك، ويقول: 'إيه اللي جابك هنا، يا واد يا وِسخ، هتقوم زي الجنّ'. ولم نكفّ عن الضحك، هل هذه مستشفى أم مقهى، وتذكّرنا أسامة بالطبع وشتائمه لفتحي في بولاق الدكرور والسيدة، وعلى كل المقاهي الأخرى.
هل ارتاح أسامة؟ وهل ارتاح فتحي يوماً؟ وهل ارتحت أنا؟ تباعدنا، أسامة بالموت، وأنا في حلوان وقد كبر أولادي، وفتحي كل سنة أو سنتين يستفرد به المرض يومين ويخرج سالماً. وتظل حلوان أنا وفتحي بعدما ذهب أسامة، هي مكان سامرنا الأخير، حتى تتعب النجوم، وأذهب أنا إلى مدينة 15 مايو، ويذهب هو إلى مكان نومه المعتاد في بيت مهجور تمرح فيه الفئران مع المخرج سامي إدريس.
يأتينا أحياناً، في الحكاية، أسامة خليل، وقد شتمنا أو يجلس معنا يتأمل الحال، ثم يتركنا. يقول فتحي: 'والله ارتاح، كان هيقعد يعمل إيه في الأيام الوسخة دي؟'. ثم يسألني عن أدهم ابني، فأجيبه، فيقول لي: 'سيبه يعمل اللي هو عاوزه طالما ماشي كويس'. حتى تتعب النجوم، ولا يملّ فتحي من ألق النار في الحجر. وفي النهاية، يذهب إلى حجرة سامي إدريس، وأنا إلى مدينة 15 مايو. إلى أن رأيت فتحي راقداً يضحك، ويكاد أن يكون شبحاً في السرير، ولكنه شبح يضحك، وشعره تحت رأسه، وبجواره يبتسم صديقنا الشاعر محمد عيد إبراهيم. بعدما ذهب الألم إلى المريء والكبد. خيانة ثالثة يفعلها الكبد فينا، ومراوغةٌ غير شعرية يلعبها معنا. فتحي يكبرني بشهر كامل، وأنا وهو على أبواب المعاش، والكبد يلعب معه بشكل فاضح، وفتحي الفلاح يضحك، ويعاند، وكأنه في مقهى، وأمامه الحجر، ويداعب العامل. وحينما تتعب النجوم، يدفن يده في جيبه مثل فلاح، لكي يعطي العامل الطيب ما تجود به نفسه، كي يذهب إلى حجرة سامي إدريس، وأنا أنظر إلى المشهد كله بأسى، وأتأمل الأكباد، ثم أذهب ليلاً إلى جبال مدينة 15 مايو، وتلك هي اللعبة التي لن تنتهي أبداً.

نيسان ـ نشر في 2017-01-27

الكلمات الأكثر بحثاً