اتصل بنا
 

بطّة وفضيحة وثلاثة دروس

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.

نيسان ـ نشر في 2017-02-08 الساعة 23:53

نيسان ـ

قبل أن يسقط في مخالب 'البطة العرجاء'، كان المرشح اليميني للرئاسة في فرنسا، فرانسوا فيون، يقدّم نفسه أنظف سياسي في بلاده، وكان يلمز إلى رئيسه السابق، نيكولا ساركوزي، ويقول: 'هل يتصور العقل أن يقف الجنرال ديغول في قفص الاتهام'، فإذا بالمرشح القوي للرئاسة في فرنسا يجد نفسه في ورطةٍ سياسيةٍ وأخلاقية، فجرتها مجلة le canard enchaîné التي حشرت فيون في الزاوية الضيقة، بعد نشر تحقيقٍ أظهر أن سليل العائلة الديغولية متورّط في قضية فساد كبيرة قد تعصف بمستقبله السياسي على بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية.
زلزلت المجلة الساخرة، المعروفة بتحقيقاتها الصادمة، بيت اليمين الفرنسي الذي كان يستعد لتسلم مفاتيح قصر الإليزيه بعد أن أعطته كل استطلاعات الرأي تقدما كبيرا على مرشح اليسار، لقد حصلت بينيلوب فيون، زوجة المرشح للرئاسة، على أكثر من 800 ألف يورو عن مهام وهمية لم تقم بها إلى جانب زوجها، أيام كان برلمانيا في الجمعية العامة، ثم في مجلس الشيوخ، أي أن مدام فيون كانت ولسنوات موظفة شبحا في البرلمان الفرنسي، ولم تقم بأية وظيفة تستحق عليها أكثر من 6000 يورو في الشهر، من جيوب دافعي الضرائب، غير الاعتناء بأولاد فيون وشؤون بيت العائلة.
ولأن الفضيحة انفجرت في فرنسا، ولأن للقضاء عيونا وآذانا يرى ويسمع بها ما يدور في الصحافة والإعلام، فإن النيابة العامة قرّرت فتح تحقيق في النازلة، وزار محقّقوها مكتب فيون في البرلمان، ولم يعثروا على أي أثر لعمل زوجة المرشح للرئاسة الفرنسية، ولا حتى إيميلات منها إلى عنوان المكتب، لا شيء يدل على أنها كانت تقدّم خدمة تستحق عليها أجرة كبيرة.
ولأن أول ما يفقده السياسيون هو الذاكرة، فإن فيون نسي أن زوجته بينيلوب سبق وصرحت لصحيفة الديلي تيلغراف البريطانية في 2007، عقب تعيين فرانسوا فيون رئيسا للوزراء، وقالت بالحرف 'لم أكن يوما مساعدة لزوجي، ولم أكن يوما ضمن فريق الاتصال لديه'، وأضافت 'عرفني أبنائي مربية فقط'.
في اجتماع لقادة الحزب، قال فيون إن هناك من يريد سرقة الرئاسة من الحزب، وإن العملية وراءها اليسار وجهات عليا، يقصد الرئيس فرانسوا هولاند، وإنه يحتاج إلى خمسة عشر يوماً ليقرّر في مصير ترشيحه للرئاسة.. وأول من أمس، اعتذر للفرنسيين، لكنه ظل يقاوم فكرة الانسحاب من سباق الرئاسة.
في هذه القصة الفرنسية ثلاثة دروس على قدرٍ كبير من الأهمية: أولها كتب بمداد الصحافة الحرة التي مازال قلبها ينبض، ومازالت قادرةً على تحدّي سطوة السياسة والإعلان، وصناعة صحافة مواطنة في خدمة الحقيقة. سلطة رابعة تراقب السلطات الثلاث الأخرى (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، فمجلة لوكانار أونشني واحدة من الجرائد القليلة في العالم التي تحرّم الإعلانات على صفحاتها، حتى لا تبيع مع الإعلان روحها، وجوهر خط تحريرها القائم على السخرية والنبش في الحدائق الخلفية لرجال السياسة والمال والسلطة ونسائها.
الدرس الثاني كتب بمداد القضاء المستقل الذي سارع إلى فتح التحقيق مع أقوى رجل في فرنسا اليوم، بناء على تحقيق صحافي نشرته مجلة ساخرة، فلم تتردّد النيابة العامة في فتح ملف لفرانسوا فيون، على بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية، ولم يخش النائب العام أن يُتهم بتسييس الملف أو الانحياز لطرفٍ ضد طرف، ما دام الرأي العام يرفض تطاول السياسيين على المال العام، وما دام القانون فوق الجميع، ولا تخضعه روح هذا القانون لمواعيد الانتخابات أو ساعة السياسة.
أما ثالث درس خرج من فضيحة فيون، فهو أن اليمين الشعبوي الذي يحاول أن يلعب بورقة نظافة اليد، وبالمزايدة على باقي التيارات السياسية الأخرى في موضوع محاربة الفساد، وتطهير دواليب الدولة من الفساد، ولا يعني هذا أن أقواله تنطبق مع أفعاله، أو أنه طرف (طهراني) و(خلاصي) جاء ليملأ الأرض نظافة، بعد أن ملأها غيره قذارة. هذا شعار مضلل هدفه خدعة الناخبين، واستغلال تذمرهم من أعطاب الحياة السياسية، وترهل الطبقة التقليدية التي تحكم، لكن هذا لا يعني أن اليمين الشعبوي يحمل حلا للأزمة. بالعكس، قد يصير هو نفسه أزمة جديدة، وما تجربة دونالد ترامب في أميركا عنا بعيدة.

نيسان ـ نشر في 2017-02-08 الساعة 23:53

الكلمات الأكثر بحثاً