كل هذه الهشاشة في رام الله
معن البياري
كاتب اردني مغترب
نيسان ـ نشر في 2017-02-11
تنتهي رواية عبّاد يحيى 'جريمة في رام الله' بانتحار أحد شخصياتها. يُخبرنا الراوي أن والدة هذا المنتحر لم تكن بحاجةٍ لتحقيقٍ في أسباب إقدامه على قتل نفسه، ولم تبكه حينها، 'لأنها بكت معه طويلاً في الأسابيع الماضية..'. وكذا أنت، قارئ الرواية، لن تكترث بمعرفة السبب، لأنه ليس مهماً، تماماً كما أنه لا حدث، في كل صفحات الرواية (دار المتوسط، 238 صفحة)، ستجد نفسك معنيّاً بمعرفة دواعيه وحواشيه. ومن ذلك أن مقتل شابة في الثانية ليلاً، في شارعٍ في رام الله، بسكّين مفاجئة من قاتلها، بينما كانت مع صديقها، وقد خرجا للتوّ من حانةٍ، ليس حدثا مشوّقاً سيشغل حواسّك وانتباهك، وهو الذي يشير إليه اسم الرواية، فيما ستُصادفه قبل نهايتها بصفحاتٍ قليلة. لن تعرف لماذا قُتلت، ومن قتلها، وما اسمها. تُرى، هل ثمّة تقريظٌ بالرواية في هذه الإحالة إلى مبناها العام هذا، أم تبخيسٌ من جمالها وقيمتها الفنية، أم تلميحٌ إلى ضعفٍ فيها؟ لا، لا شيء من هذا كله. ببساطةٍ، لأن الرواية تقوم أساسا على تظهير هشاشة الفضاء العام كله، كأنه لا قيمة ولا معنى لأي شيء ولأي فعل. ثمّة اعتناءٌ كبير بوصف الأشياء وتعيينها، وبإتقانٍ غالبا، وثمّة كتابةٌ عن مناخٍ من انعدام الجوهر في حياة الشخصيات التي نهضت الرواية على سردٍ عن حيواتهم وحاضرهم وهواجسهم (ما قد يذكّرك ببعض أعمال غالب هلسا؟). ثمّة انعدام الشعور بالجدوى تجاه أي مضمون. كأن احتفاءً مضمراً يريده عبّاد يحيى بكل ما لا يُحسب مهماً في حياة الفلسطينيين، في رام الله، أو كأنه يرمي سؤالاً مخفيّا عمّا إذا كانت هناك أهمية أو قيمة لأي شيء في غضون الالتباس الحادث في الحياة هناك، حيث الاحتلال حاضر وغائب معا، حيث السلطة ولا سلطة، حيث التناقضات والمتاهات الوفيرة.
شخصياتٌ مركزيةٌ ثلاث في الرواية، تنكشف اثنتان منها تماما، أجاد الكاتب بناء واحدةٍ منهما بتوفيقٍ ظاهر، أكثر من الأخرى. يتحدّث كل منهما عن نفسه، بكل عريٍ ووضوح. يتحدّث رؤوف عن شعوره بالتفاهة تجاه نفسه وتجاه كل شيء. هو الذي يتمطّى الزمن أمامه من دون اكتراث، فليس من شعورٍ يحسّ به، وهو يرسبُ في الجامعة مثلا. وعندما صارت جريمة قتل الشابة في رام الله، وأثارت اهتماما واسعا، لم يفكّر بالأمر، ولم يتحرّك تجاهه فضول... طوال صفحاتٍ، يتحدّث عن دنيا، الفتاة التي تقيم في جوارحه، تحضر طيفا وشبحا مقيما، غير أنها غائبة، وعندما يفتّش عنها في الجامعة ولا يجدها يشعر بارتياحٍ لأنه لم يجدها (!). ثم ما أسهل أن ينساها، 'كأنها لم تكن محور حياتي كلها يوما...'. وفي تعبيرٍ عن عبثية الحالة، يُصادفها في بقالة، على شاشة تلفزيون، مذيعةً تحكي عن مقتل تلك الفتاة. يُفاجئه أن زميله السابق في شقة سكنا فيها مقاومٌ اعتقله المحتلون، يسأل، وهو الذي يتقاضى والده راتبا من المجلس القروي من دون فعل شيء، عن السبب الذي يجعل زميله ذاك يُقدم على فعلٍ كهذا... شخصية مثل هذه مبنيّة جيدا في الرواية، لا ترى سوى جبال البكتيريا والجراثيم في زوايا كل شيء في الشقة. هو الذي شرب والدُه الكحول حتى داخ شابا، ولم يكن يحذّره من شيء مقدار تحذيره من الشرب.
تبدو شخصية نور، واسمُه يحيل على مذكّر وأنثى، مهزوزة، لا يُنبئك عن شذوذه، لكنك ستعرف هذا عنه، يقول عن نفسه إنه معذّب وتتلاعب به الأشياء، والدُه يستفيد من حركة حماس ببيعه لها بضائع ومساعدات. يقول عن عائلته 'لم ينلنا أي سوءٍ من الاحتلال أو من السلطة أو فتح أو ..'. وبمثل هذه الإحالات، اللمّاحة، الساخرة، النابهة أحيانا، وغير المقنعة أحيانا أخرى، وكثير غيرها، عن نور، وعن الشخصية الثالثة وسام (صديق القتيلة، والمنتحر في مختتم الرواية)، يمضي سرد 'جريمة في رام الله'، بتناوبٍ من راوٍ عليم إلى متحدّثٍ بضمير أناه، ومن ماضٍ إلى حاضر، وبتناوب الشخصيات، وبتداخل حكاياتها وإشاراتها، الماكرة غالبا. ولكي يتحقق الإيهام بحقيقة هذا كله، ثمّة المفتتحاتُ الإخبارية القصيرة التي تُستهل أقسام الرواية بها، غالبُها عن قتلٍ في مالي والعراق وفلسطين وسورية وأفغانستان .. أحدها قول 'الشاباك' إن أي إسرائيلي لم يُقتل طوال العام 2012 في الضفة الغربية، وهي المرة الأولى منذ 1973. .. أي في غضون تعرّي أبطال الرواية وانكشافهم، وانعدام اكتراثهم بالمجموع العام حواليهم، مستغرقين في هشاشتهم التي بلا حدود.
\