مُنع في لبنان
معن البياري
كاتب اردني مغترب
نيسان ـ نشر في 2017-02-14 الساعة 02:45
تعلقت حلقة الأسبوع الماضي من برنامج 'خارج النص' في قناة الجزيرة بفيلم اللبناني ديغول عيد (46 عاماً) 'شو صار'، الممنوع منذ عام إنجازه (2010) عرضُه في أي عروضٍ تجاريةٍ وثقافيةٍ في لبنان 'وأداً للفتنة، لأنه يثير نعراتٍ طائفيةً وسياسيةً وحزبية'، بحسب قرار للأمن العام اللبناني. وتصادف استذكار 'الجزيرة' هذا الفيلم، غير المنسي (كان كاتب هذه السطور من مشاهديه في مهرجان دبي السينمائي)، مع منع عرض الفيلم المصري 'مولانا' في لبنان، بعد توصية دار الإفتاء الإسلامية حذف نحو عشر دقائق من مشاهده. ومن مفارقاتٍ كاشفة أن لبنان الذي يعرف منسوب الحريات العامة والفردية الأعلى عربيا هو أكثر البلدان العربية تُحظر فيه عروض أفلام سينمائية، ومن جديدها فيلما هنري برجس 'ورقة بيضاء..'، وفيليب عرقتنجي 'اسمعي'، وليست منسية واقعة منع عرض ثلاثة أفلام، فلسطيني وسوري وإيراني، في مهرجان بيروت السينمائي في دورته العام الماضي.
أضاءت حلقة 'خارج النص' (من أفضل البرامج الجديدة في 'الجزيرة') جيداً على قضية 'شو صار' ومنعه، وهو الذي تُرافق الكاميرا فيه بحثَ مخرجِه والشخصيّةِ الرئيسية فيه، ديغول عيد، عن حقيقةِ مجزرةٍ قُتل فيها والداه وأختُه وعشرةٌ من أفراد عائلته في 1980. ويتحرّى ما إذا كان القتلُ نتيجةَ خلافٍ عشائريٍّ بين عائلتين، أم لانتقامِ مسؤولٍ في حزبٍ سياسيٍّ من شخصٍ متهمٍ بقتلِ أخويه، مسؤولٍ في حزبٍ آخر. ومما يؤكّده منع عرض هذا الفيلم (وإنْ بعد دعوى من شخصٍ ظهر فيه) أن لبنان، مجتمعا ودولةً ونخبا وطبقة سياسية، ليس مستعدّا بعد لأي نوعٍ من المكاشفة مع ماضيه القريب، ولا للاقتراب من مراجعةٍ له، بل ليس هناك أيٌّ من أطراف الحرب الأهلية، المعلومة التفاصيل والنتائج، من هو مستعدٌّ لإشهار اعتذارٍ، ولو طفيفاً عن أي مسؤوليةٍ في غضون تلك الحرب التي فقد فيها ديغول عيد والديْه وأخته. وليس ذلك مستغرباً في بلدٍ ليس قادرا بعد على توحيد كتاب التاريخ في المنهاج المدرسي، وقد نصّ اتفاق الطائف على إنجاز هذا الأمر، فتشكلت 'لجنةٌ عليا' من عشرة مؤرخين يمثلون كل الطوائف، ثم أخفقت، ثم تم تناسيها.
كان الوزير السابق، غازي العريضي، طموحاً جداً عندما دعا، قبل سنواتٍ، إلى أن يتحاور اللبنانيون، على اختلاف طوائفهم ومحازباتهم، بشأن الحرب الأهلية 'بصراحة'، ضمن ما يشبه لجنة المصالحة والحقيقة التي تشكّلت في جنوب أفريقيا بعد انتهاء النظام العنصري. هذا يقترب من المستحيل، ربما يحدث شيء منه بعد عقود، ربما. أما الآن، فإن كريم بقرادوني يعتذر بشخصه، لا بحزبه (الكتائب) عن اقتراف 'صبرا وشاتيلا'، ويعيد اعتذارَه الشخصي ذاك، على شاشة 'الجزيرة' مرة، إلى أن دينه المسيحي لا يسمح بارتكاب المقتلة الفظيعة. أما سامي الجميّل، من الحزب نفسه، فإنه لم يستح، قبل سنوات، من العلاقة التي قامت طويلا بين 'الكتائب' وإسرائيل، أو بين الأخيرة و'المقاومة اللبنانية'، بحسب تسميته قوى ذلك اليمين اللبناني إيّاه. وعندما تسأل صحافيةٌ سمير جعجع عمّا إذا كان نادما على أي فعلٍ قام به، فإنه يصمت ولا يجيب. وفي الأثناء، يصدُق دوري شمعون عندما يقول: جميعنا أخطأنا، والشعب اللبناني يستحق منا كلمة اعتذار... ولكن، من يفعلها ويعتذر؟ من يستجيب لمطلب طارق متري، ذات ندوة عن 'صبرا وشاتيلا'، 'كشف حقائق الماضي، من دون الوقوع في خلافات الحاضر'؟ من هو القادر، بجدارةٍ وكفاءة ومصداقية، وقبل ذلك وبعده بشجاعةٍ وجسارة، على إقامة هذه المعادلة، في مراجعةٍ مشتهاة؟
استدعت حلقة 'خارج النص' عن فيلم 'شو صار' الممنوع في لبنان (عُرض في خارجه) هذه النتف من أرشيفٍ لبنانيٍّ غير بعيد، تحيل إلى مقادير التكاذب التي يقوم عليها المبنى السياسي العام في لبنان أكثر مما نتخيّل. وهذا الولع بمنع هذا الفيلم أو ذاك، مصري أو سوري أو إيراني، في لبنان، بدعوى 'درء الفتنة' مثلا، يدلّ على مرضٍ مزمن في لبنان (ثمّة تنويعات منه في غير بلد عربي)، وأن شفاءً تاما منه دونه حساباتٌ وحساسياتٌ بلا عدد، وإنْ يلزم تثمين مقادير التعافي الطيّبة الراهنة في لبنان، حماه الله، وحمى أهله، وأبقاه 'وطنا للجميع'.