اتصل بنا
 

أبي وترامب الكاوبوي

نيسان ـ نشر في 2017-02-15 الساعة 01:21

نيسان ـ

كان أبي مولعاً بأفلام رعاة البقر، وكان يحدُث أن يصطحبنا إلى الصالة القريبة، لنرى آخر الأفلام التي كان يحدث أن ننعم بمشاهدتها في البيت أيضا، بعد أن نطفئ النور، جالسين أمام الشاشة الصغيرة، وفي أيدينا ما أعددناه سلفا من إمدادات، كي لا نضطرّ إلى القيام من أمكنتنا لأي سببٍ كان. كان أبي يتحمّس للبطل الجبّير، قاهر الصعاب القادر على تحمّل شظف العيش وقسوة الطبيعة وليالي الوحدة الطويلة، لمقاومة العنف وتحقيق العدالة، منتصرا، في النهاية، على أعدائه من المجرمين والأشرار. ولا بدّ أن أبي، وأمثاله من الآباء، قد أحبوا تلك الأفلام، لتآلفها ورؤيتهم للعالم القائمة على ثنائية الخير والشرّ، وعلى فكرة أن الشرّير خاسر أو معاقَب لا محالة، بحسب ما تنصّ عليه العدالة الإلهية.
إذاً، كان أبي، ونحن صغاره من ورائه، نهتف مصفّقين مهلّلين لرؤية بطلنا، وقد أغلق عيناً واحدة، استعدادا للتصويب، ببندقيته الفريدة اللامعة، على رؤوس أولئك الهمج البرابرة الذين يعتدون على الأطفال والنساء ويحرقون البيوت، مطلقين ولولاتهم المخيفة، قبل أن يهاجموا طعنا وسلخا. كنّا، حين يبدأ البطل يُسقطهم برصاصه، الواحد تلو الآخر، نتنفّس الصعداء، متمنّين لو أنه يأتي عليهم دفعةً واحدةً، فيقوم حتى بإبادتهم كليا كي نطمئنّ إلى حسن سير العالم من جديد.
نتفرّج على المقتلة الدائرة أمامنا، 'بكل براءة، وحسن نية'، فلا نتساءل مثلا من يكون هؤلاء ذوو الشعور الطويلة والنقوش الغريبة الذين يجلّون الطبيعة، ويتواصلون مع أرواح أجدادهم، ثم نراهم وقد توحشّوا فجأة، وهاجموا وقتلوا أناسا أبرياء. نحنُ الذين من الضفّة الأخرى، كنا لجهلنا، نصدّق ونصادق على الخرافة الأميركية التي حوّلت الأبيض أسود والأسود أبيض، كي تبرّر إبادتها الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين.
فأميركا، كما هي حال بلدانٍ أخرى، قامت على مجموعةٍ من الأساطير المؤسِّسة. هناك أسطورة راعي البقر الشجاع المقدام، المسافر وحيدا، تحت شمسٍ حارقة، أو تحت قمر مكتمل، عشقا للحرية، بحثا عن مطلوبي العدالة، أو دفاعا عن أرض 'مشاع' استوطنها بعد أن منحته الدولة صكّ ملكيتها، وإذا بالأشرار يريدون طرده منها، لسببٍ لا يفقهه. هناك أسطورة 'الفرد' أو 'المبادرة الفردية' التي نقول إن أولى أفواج المهاجرين الأوروبيين والآسيويين (من إيطاليا، إيرلندا، اليونان، يهود أوروبا الشرقية، الصين، كوريا)، هم الذين بنوا أميركا من دون مساعدة الدولة، ومن دون أي دعم، تليها فكرة الجماعة، الإثنية أو العرقية، حيث تبدو البلاد مكوّنةً من تلك الجماعات. 'بالله نثق' هو الشعار الذي يُظهر روح التديّن أحد أسس الأمة، وخصوصاً أن المهاجرين الأوائل كانوا من البروتستانت الراديكاليين القادمين من بريطانيا الكبرى. هناك أيضا البراغماتية، كما عبّر عنها برتراند راسل، حيث 'تعتّم الروحُ التجارية، والبراغماتية هي تعبيرها الفلسفي، على حبّ الحقيقة في أميركا'. أما الأسطورة الأكثر رواجا، إلى جانب 'الحلم الأميركي'، فهي فكرة 'أميركا الفاتِحة' ذات الدور الاستثنائي والرسالة القائمة على تصدير الديمقراطية والحرية إلى العالم، وقد ظهرت هذه العقيدة في القرن التاسع عشر (1840) لتبرير الاستيلاء على أراضي الغرب الأميركي، وهو ما سيستمر لاحقا مع التوسّع الأميركي الذي لطالما مزج بين المصالح الاقتصادية وفكرة المهمة التحضيرية (من حضارة).
في القرن العشرين، اعتبر الرئيس ويلسون (1913-1921) أن أميركا تضطلع بمهمة كونية: 'أعتقد أن الرب تولّى ولادة هذي الأمة، وأنه تم اختيارنا لنُري الدربَ لأمم العالم الأخرى'، وهو بالضبط ما طابق رؤية الرئيسين جورج بوش الأب والابن. أما الرئيس الحالي، دونالد ترامب، فهو من يعيدنا اليوم إلى الأسطورة الأولى، أسطورة راعي البقر الشجاع، القادم على صهوة جواده لتقويم العالم، صاحب الأسلوب الفج والتصرفات القاسية الغليظة، إنما من أجل قضيةٍ عادلة هي الدفاع عن شعبه ضد المتوحشين. إنما هذي المرة، الهنود الحمر هم القادمون من خارج الحدود، إنهم مورّدو الإرهاب، المسلمون من دون استثناء، يليهم المكسيكيون، وكل من يهدّد أمن البلاد.
أما في ما يخصّ أبي، فلا أظنّه لو كان ما يزال حياً سيكون من محبّي 'بطل' كدونالد ترامب.

نيسان ـ نشر في 2017-02-15 الساعة 01:21

الكلمات الأكثر بحثاً