الأنظمة "الزّوَرية" الشكّاكة
نيسان ـ نشر في 2017-03-01 الساعة 01:35
تعتبر الشخصية الزّورية نفسها مركز الأحداث المحيطة بها، وتعتبر نفسها أيضًا شديدة الحساسية بالآخرين، وتشك كثيراً في سلوكهم ونشاطاتهم ونواياهم، حتى الأعمال العادية اليومية البريئة التي يقوم بها الناس، بشكل عفوي واعتيادي، تفسّرها الشخصية الزّوَرية موجهةً ضدها، وتقصد الإساءة إليها واحتقارها.
تسعى السلطة الدنيوية دائمًا إلى تحصين نفسها بالقانون الوضعي الذي تفبركه، بما يخدم أجندتها من جهة، ويتناغم مع شخصيتها الزّوَرية من جهة أخرى، ويمدّها بالدافع الذي يجعلها صاحبة الحق المطلق بتكريس ما يشعرها بالاستقرار، على الرغم من أن السلطات الشمولية، القائمة بشكل أساسي على القمع وكبت الحريات، لا تشعر بالاستقرار أو الأمان، بل هي شخصيةٌ قلقةٌ شكاكة، تضمر في داخلها أوهامًا عن عدو متربص، يقلق عرشها يتمثل في محكوميها. ودائمًا نظرتها إلى المحكومين، أو الواقعين تحت سيطرتها، أنهم 'رعايا' في أوقات الاستقرار، ورعاع في أوقات الاضطرابات. وفي الحالتين هم مسلوبو الإرادة، وهناك من يحرّكهم ويحرّضهم، فمنطق المؤامرة يقظ بشكل دائم في لا وعي السلطات الزورية الشكّاكة، وكل من يتبع إليها أو واقع تحت سلطتها مثير للريبة، حتى عملاؤها والجماعات التي تنفذ أجنداتها، ولا يخفى على أحدٍ كيف تسعى هذه السلطات، سياسية أو دينية، إلى تصفية بعض الرجالات أو العناصر الذين تشك في سلوكهم تحت ضغط وسواس القلق والخوف على السلطة، على الرغم من أنهم من أكثر عملائها إخلاصًا، أو أكثرهم التصاقًا بها.
وتتكئ الجماعات الدينية صاحبة السلطة على قانون إلهي، يتمتع بقدرةٍ هائلةٍ على المحاسبة والمقاضاة، قانون هو بحد ذاته مبدأ راسخ قدسي، مدجج بالرهبة والخوف من الحساب، وليس خافيًا سلوك الأحزاب أو الجماعات أو التنظيمات الدينية في ممارسة سلطتها، وفرض الرهبة والذعر في نفوس المجتمعات التي تمارس هذه السلطة عليها، وكيف تراقب المجال العام وسلوك الأفراد بطريقةٍ عصابيةٍ متوترةٍ، جاهزة للانقضاض على المخالفين، أو المشتبه بمخالفتهم شريعتها تحت ضغط النوازع الزورية الشكّاكة، فتحاسبهم على نياتٍ، تتوهم أنهم يستبطنونها.
'لن يكون نهوضٌ قبل كسر التابوهات وتحطيم الأصنام وتحرير الوعي لإطلاق الطاقات الإبداعية في كل ميادين العلوم والمعرفة والثقافة والفكر'
الإبداع دائمًا في حالة رفض ما هو قائم أو مفروض، إن كان بسلطة العرف والتقاليد أو الموروث الديني والثقافي، أو بالسلطة السياسية ونهجها في إدارة المجتمعات. هذا الرفض بحد ذاته حالة ثورية مستمرة، ولأن الثورات أكثر ما يقلق الشخصيات القلقة، وبالتالي الأنظمة القلقة والشكاكة، فإنها تُقمع وتُلاحق ويُمارس بحقها كل أشكال العنف الذي قد يصل حتى الإبادة. ليس هناك ما يثير حفيظة السلطات المستبدة أكثر من الإبداع، فهو، باعتباره محرّضًا على التفكير ومحفّزًا للخيال، قادرٌ على كشف زيف الواقع المحمي بقوانين المستبد أو شريعته، وتعريته للوصول إلى عمقه. وبالتالي السعي إلى تغييره، والتغيير بحدّ ذاته فكرةٌ تثير الرعب لدى السلطات من هذا النوع، مثلما تثير الرعب لدى غالبية من يقعون تحت سيطرتها.
الشخصية المنبثقة من تاريخنا مأزومة عصابية، تعاني من اضطراب الثقة بالنفس بشكل عام، من دون إطلاق حكم بالتعميم الكامل. لذلك، تتفاقم لديها هذه الاضطرابات السلوكية، إذا امتلكت سلطةً مهما كان حجمها، فتصبح زوريةً تجاه الشعب، وتجاه المختلفين والمخالفين، وتجاه الإبداع بكل مجالاته، شكّاكة حتى أمام آيات الولاء التي تقدم إليها. فنراها دائمًا في حالة ترقبٍ وتربصٍ، جاهزةٍ للانقضاض، معتمدة على أوهامها ووساوسها والخوف من أي نسمة ريحٍ، قد تحرّك المياه الساكنة الراكدة في المستنقع الذي تراكمه، فليس ما يحافظ على سكينتها مثل استنقاع المخيلة، ليس هذا فقط، بل تسعى إلى اجتراع المشكلات بين وقت وآخر، وسيلة وقائية أمام ضغط وساوسها وأوهامها، فتسعى إلى ممارسة سطوتها كل حين، تحت ذرائع مختلفة، ليس المقصود منها سوى الضربات الاستباقية لتربية المتربصين بها، وتدعيم جدران الخوف في نفوس الواقعين تحت سطوتها، كما تتوهم في محاولةٍ دائمةٍ لاتهام الآخر، أي آخر، بأنه يستهدفها، وهذا السلوك نراه حتى عند الأفراد في مجتمعاتنا، فليس أمرًا غير مألوفٍ أن نسمع أحدهم يتحرّش بالآخر في شوارعنا، غاضبًا يسأله: لماذا تزاورني؟ ثم لا تلبث الحالة أن تتطوّر إلى عراكٍ، يتطور بسرعة كبيرة، ويجرّ إليه مؤيدين لكل طرف.
وبالعودة إلى الشخصية السلطوية الزورية، فإننا نرى، انطلاقًا من هذه الهواجس والأوهام التي تسيطر عليها، خصوصًا إذا كانت قد امتلكت السلطة بطريقةٍ بعيدة عن الديموقراطية، أو من دون اختيار حرّ من العامة، ومارستها بأسلوبٍ مستبد، فإنها تفقد الثقة بنفسها، وتشك بولاء العامة لها، فنرى أن عصابها يتركز بشكل كبير على المبدعين، والأمثلة تطالعنا بها كل حين سلطات في بيئتنا المضطربة بالثورات والحروب والأعاصير والزلازل، ليس آخرها موقف النائب العام الفلسطيني من رواية 'جريمة في رام الله' لعبّاد يحيى، ولن يكون آخرها قرار مجلس نقابة الفنانين الأردنيين بعد اجتماع 'تأديبي' بحق الممثلة أسماء مصطفى.
زادت عيون الأنظمة القمعية المتحالفة مع الدين السياسي المُصادر للفردية ولحرية التفكير، وتعدّدت مجالات الرصد التي تؤزمها، وتجعل شكوكها في حالة انفعال دائم، فحتى مواقع التواصل التي يكون للفرد فيها صفحة شخصية، أي مكان يخصه من حقه أن يعبر كما يشاء من خلاله، ويرتبه كما يرغب، صارت هذه المواقع نوافذ إضافية مفتوحة على الشخصية الزورية لأصحاب السلطة، وبالتالي، تمدّها بأسباب إضافية لخنق الحريات ومسخ الفردية وقمع التفكير والمخيلة وقص الألسن وكم الأفواه.
'الإبداع دائمًا في حالة رفض ما هو قائم أو مفروض، إن كان بسلطة العرف والتقاليد أو الموروث الديني والثقافي، أو بالسلطة السياسية'
لم تفعل الممثلة الأردنية شيئًا سوى أنها اقتبست آية في القرآن الكريم، وسخّرتها في طرح مفهوم نقدي، فأين الكفر والتطاول على الدين أو المقدسات؟ لقد اقتبستُ قبل اليوم عنوانًا لمقالة كتبتها تحت وطأة الوجع السوري والخيبة السورية 'وإذا الثورة سئلت بأي ذنب قتلت'، فانهالت عليّ الشتائم والتهديد على صفحة التواصل الخاصة بالصحيفة، ومنهم من استباح دمي، بل انهمرت عليّ الشتائم والنعوت التي تتباهى الشخصية العربية والإسلامية بامتلاكها تجاه المرأة. فالمرأة أيضًا من الشرائح المستضعفة في مجتمعات تحكمها هذه السلاطين، من الطبيعي أن توجه إليها السهام الجارحة بهذه الطريقة، كما تعرّضت الممثلة الأردنية له.
لم تصنع ثورات الربيع العربي إلى الآن النسخة المرجوّة، بل يظهر الواقع مآلاتها الكارثية، فما زالت الشعوب العربية ترزح تحت نير الأنظمة الزّورية المستبدة بتحالفها في ترويض الجموع من جهة بالأدوات القمعية ذاتها، وبصراعاتها التي لا تتعدّى الصراع على السلطة واحتكارها، من جهة أخرى، وبالحفاظ على واقع راكد مستنقِع.
لن يكون نهوضٌ قبل كسر التابوهات وتحطيم الأصنام وتحرير الوعي لإطلاق الطاقات الإبداعية في كل ميادين العلوم والمعرفة والثقافة والفكر، ومن ضمنها تفعيل البحث والدراسة في بعض الميادين التي ننتظر الغرب أن يمدّنا بنظرياتها ونتائج أبحاثه حولها، علم النفس الفردي والجماعي، علم نفس السلطة والقادة، علم نفس الجماهير، علم نفس رجال الدين. هذا ليس حلمًا، بل برنامجا تمليه الضرورة.