اتصل بنا
 

بأي لغة عربية نكتب ؟

نيسان ـ نشر في 2017-04-18 الساعة 11:02

نيسان ـ

في حوار مع زميل لي ، أديب مخضرم ... حول لغة الكتابة الأدبية ، وبالتحديد اللغة الروائية، جزم بان ما اتفق على تسميتها ب ' لغة الصحافة ' لا تنفع كلغة للكتابة الروائية .
هذا الحوار يتردد بصيغ مختلفة ، حول مجمل الكتابة باللغة العربية.
أوضحت أن للجملة الروائية أو القصصية، كما للشعر، مميزات خاصة بها، تختلف عن المقالة أو الخبر، إن كان بطريقة صياغتها، أو وضعها بالسياق النثري. ولكن الكلمات تبقى هي نفسها.
زميلي أضاف انه يقصد ان مفردات لغة الصحافة ، هي مفردات غير أدبية ولا تصلح لخلق ابداع أدبي فني، رواية مثلا...
سألته: وهل نستطيع بلغة الجاحظ أن نكتب اليوم إبداعا أدبيا ... رواية مثلا ...؟
هذا ذكرني بالنقاش القديم والرائع بين العملاقين الخالدين، الأديب الموسوعي مارون عبود، والشاعر الكبير نزار قباني، يوم تمسك مارون عبود بالشكل الكلاسيكي للقصيدة ، وأصر نزار قباني على الشكل الحديث ، في حوار من أجمل وأرقى ما قرأت في ثقافتنا العربية .
لم يكن النقاش مجرد خلاف على الشكل . . انما تضمن أيضا لغة القصيدة ، ومعروف ان نزار قباني هو الشاعر العربي الذي جعل الشعر في متناول وفهم حتى أبسط الناس . فهل نستطيع ان نقول أن لغة نزار قباني الشعرية هي لغة ' غير أدبية ' لأنها قريبة جدا من لغة الصحافة، أو هي لغة الصحافة نفسها؟ هي بلا شك لغة بسيطة بمفرداتها، متدفقة كالماء بصياغاتها، وهي من النوع الذي اتفق على تسميته بالسهل الممتنع . إن شاعرية نزار فوق أي نقاش، ولا أظن انه يوجد شاعر مقروء في العالم العربي أكثر من نزار قباني .. حتى شاعر عملا ق آخر مثل العراقي مظفر النواب، أذهلنا بشاعريته ووضوح صياغاته وسهولة الاندماج مع أجوائه بلغته العادية وغير المعقدة رغم ثراء لغته ومفرداته وعالمه التراثي الواسع ... وهي اللغة العربية التي يسميها البعض' لغة الصحافة ' بسبب مفرداتها وصياغاتها السهلة التي لا تحتاج 'لمفسر أحلام أدبي' ليشرحها للقراء.
حين سألت زميلي إذا كانت لغة الجاحظ تلائم الطلب ، لم أقصد ان 'الموروث'، كما يحلو للبعض تسميته... انتهى دوره ، إنما عنيت أن لكل عصر لغته وسماته ومميزاته ، التي تتأثر بالحديث ( من الحداثة ) وتتطور دون انقطاع وتصادم مع القديم، وان مفردات لغة عصر مضى، لا تلائم مفردات اللغة في عصر آخر أحدث ، على الرغم من انها تنبع منها وتتطور على أساسها. كذلك الأمر بالنسبة لأسلوب الصياغة .
هذا النقاش العابر، أثار في ذهني قضايا لغوية متعددة ، وجعلني أعيد التفكير في بعض المسلمات التي كانت تبدو واضحة وثابتة ، ولا تستحق التفكير ، وأثارت في ذهني مسائل أخرى أوسع من نطاق اللغة ، وكنت قد طرحت مواقفا مختلفة حول إشكاليات لغتنا وواقعها الصعب في داخل إسرائيل ، وارتباط بعض إشكالياتها بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للعرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل . ولكن هناك موضوع ترددت كثيرا في خوضه ، ليس لحسابات تتعلق بردود الفعل السليبة التي قد أواجهها من بعض المتثاقفين ، الذين لا يرون في مداخلاتي الا خطأ لغويا عابرا في صياغة جملة ما ، ويتجاهلون ما أطرحه من فكر يستحق النقاش والاختلاف في الرأي ، والتفكير والاجتهاد لفهم الإشكاليات الصعبة ، وطرق تجاوز حواجز 'حرس حدود' اللغة ، الرافضين لأي تطوير وتزحزح عن المحنطات اللغوية.
هل يمكن ان نخضع لسيبويه والكسائي الى أبد الآبدين ؟
هل كان يمكن ان يصبح نزار قباني الشاعر الأكثر قراءة وتأثيرا لو لم يصر على نهجه الحداثي لغة وأسلوبا وأفكارا ؟
هل يوجد في اللغة العربية لغة فصحى كلاسيكية ، ولغة فصحى أخرى حديثة ؟ أم أن الفصحى هي فصحى واحدة تتطور وتتعدل حسب الظروف الحياتية والواقع الاجتماعي والاقتصادي المتحرك ؟!
معروف انه يوجد نقاش لم ينته بين مؤيدي الكتابة بالفصحى ومؤيدي الكتابة بالعامية، وهناك اتجاه ثالث ، وسطي ، ينادي بتقريب الفصحى للعامية ، وتقريب العامية للفصحى( تفصيحها)!!
لا يمكن برأيي نفي موروث اللغة العامية وتعابيرها المفعمة بالدقة والحرارة ، والتي لا بديل لها أحيانا بالفصحى.
كذلك لا يمكن القول ان تراثنا بلغته ومفرداته لم يعد ذا أهمية. اذ لا شيء يتطور من العدم . أما مدى العلاقة الدينامية بين الموروث والحديث، بين أساليب التعبير القديمة وأساليب التعبير الحديثة، بين أساليب الصياغة القديمة وأساليب الصياغة الحديثة، فتلك برأيي تبقى مسالة للغويين وليست لنا نحن الكتاب والشعراء وسائر المبدعين ...
للأديب مهمة محددة ، كما افهم ... ان ينقل بشكل فني ما يراوده من أفكار وصور، وبلغة تتلاءم مع زمانه ومكانه ، دون التقيد بأهلية هذه المفردات أو عدم أهليتها ، لأنه عندما نتحول من الإبداع في لحظة نشوة ، إلى البناء المحسوب بمقاييس لغوية متزمتة ، عندها لن ننتج أدبا وفنا إنما فذلكات ذات شكل لغوي بلا مضمون فني ، وبلا حياة !!
وأعود للبداية : ما هي لغة الصحافة ؟!
هل هي نبتة غريبة في بستان اللغة العربية ؟
هل هي لغة أخرى دخيلة على لغة الضاد ؟
أنا أحدد واعرف بنفس الوقت ، أن لغة الصحافة ، هي اللغة ذات المفردات الأكثر استعمالا وفهما في محيط اللغة العربية الواسع .
هل هذا ينفي تطوير مفردات جديدة ؟ أو الاستفادة من مفردات كلاسيكية تعبر بشكل أدق وأجمل عما نريد قوله ، وبشكل بعيد عن التعقيدات ، والفذلكات اللغوية ؟!
أحاول هنا أن أحدد فهمي للموضوع برمته ، ربما هذه التسمية ' لغة الصحافة ' هي تسمية خاطئة، ولا تعبر تماما عن الواقع . أنا أميل لتسميتها ب ' الفصحى السهلة '... أو ' الفصحى الحديثة ' كمميز لها عن الفصحى الكلاسيكية. وفي الوقت نفسه أرى أن اللغة في كل زمان ومكان يتحدد شكلها وثروة مفرداتها حسب معطيات العصر نفسه .
حاولوا ان تكتبوا عن واقع العراق المأساوي بصياغات ومفردات وأسلوب الجاحظ . . أو عبدالله بن المقفع ... أو بأسلوب حتى طه حسين الأكثر حداثة .
خذوا قصة أو رواية لكاتب ما ، حنا مينا مثلا ... وحاولوا ان تبدلوا مفرداتها بمفردات كلاسيكية، أو أن تصيغوا النص بأسلوب كلاسيكي ...
هل ستحصلون على مبنى روائي أجمل وفنية أرقى ، ولغة أبعد تأثيرا ؟!
لا شك عندي من عبث المحاولات.
إن فنية العمل ، لا علاقة لها بمدى ضلوع الأديب بنحو اللغة وقواعدها، اللغة جهاز ( أداة ) أساسي وضروري ولا إبداع بدونه . أما الإلمام علميا بتفاصيلها وقواعدها ، فهو عامل ايجابي ، ولكنه ليس العنصر الأساسي للإبداع الفني ، وبالطبع تبقى المسألة نسبية .
إن اللغة جسم حي ومتطور باستمرار ، ولكل عصر لغته ، مفردات ومعان ومناخ ثقافي وفكري، وما يسمونها اليوم ' لغة الصحافة ' هي في الحقيقة اللغة الفصيحة السهلة المعاصرة الأكثر سرعة في التكيف مع الواقع .
وكما اننا لا يجوز ان ننقطع عن الموروث اللغوي والثقافي ، فلا يجوز كذلك ان يقف الموروث حاجزا أمام التطور الدائم للغة.
من هنا نصل إلى سؤال هام : هل اللغة وسيلة أم غاية ؟
أثناء قراءتي لكتاب ' الثقافة والامبريالية ' للمفكر الفلسطيني د. ادوارد سعيد ( ترجمة بروفسور كمال أبو ديب ) وقعت بفخ المفردات المعجمية، والصياغات اللغوية المركبة، مما جعلني أكرس جهدا مضاعفا لفهم لغة الكتاب العربية أولا ، قبل أن افهم الطرح الفكري المثير للكتاب. وكنت قد ' تورطت ' قبل 'الثقافة والامبريالية ' بقراءة كتاب لادوارد سعيد أيضا ولنفس المترجم ، وهو كتاب 'الإستشراق '، وهزمتني لغة الكتاب، شديدة التعقيد والغرابة، ولم أستطع الصمود في معاناة القراءة والبحث عن تفسير للمعاني ، كنت وكأنني اقرأ كتابا بلغة أجنبية لا أتقنها جيدا، وعلمت من صديق لي ، مثقف أكاديمي ، انه فشل في قراءة النص بالعربية وقرأه بنصه الأصلي باللغة الانكليزية ، وانه هو الآخر لا يفهم ضرورة هذا التعقيد والنبش لإيجاد مصطلحات عربية لا يستعملها جيلنا ، ولن يستعملها أحد من الأجيال المقبلة، وذلك بدل تطوير اللغة العربية وتسهيلها ، كما حدث ويحدث بمختلف اللغات العالمية.
كتاب ادوارد سعيد ' الإستشراق' قرأته فيما بعد مترجما للغة العبرية ، بلغة واضحة وسهلة الفهم . لماذا الترجمة العبرية مفهومة لقارئ مثلي يعيش نبض اللغة العربية ويعشقها ولا يستطيع قراءة نفس الكتاب بلغته الأم – اللغة العربية ، التي تشكل محورا لعالمه الإبداعي ؟
إذن لمن نصدر كتبنا ؟
لمن نكتب إذا كنا غير مفهومين بصياغاتنا ؟
إذا عجزنا كمثقفين عن فهم ترجمة بلغة عربية راقية بلا أدنى شك ، فما هو حال سائر المواطنين ؟
كيف نصبح شعبا قارئا ، حين نعجز عن فهم المقروء؟
والأخطر ، كيف يصبح لنا دور اجتماعي وسياسي في تقرير مستقبل أوطاننا ، إذا كنا عاجزين عن فهم ، على الأقل ... لغتنا البسيطة المستعملة في وسائل الإعلام ؟
nabiloudeh@gmail.com

نيسان ـ نشر في 2017-04-18 الساعة 11:02

الكلمات الأكثر بحثاً