اتصل بنا
 

شيء ما اسمها (نكسة)

نيسان ـ نشر في 2015-06-09 الساعة 21:13

x
نيسان ـ

بقلم صادق ابو السعود

المشهد الأول

طلب أحد أبناء عم والدي من والدتي أن تحضر بعض ملابسنا بانتظار ان نذهب لعمان هربا، مما قد يفعله اليهود على غرار ما جرى بدير ياسين وغيرها، لكن إصرار والدتي على عدم الذهاب آنذاك دون أن تستشير والدي قد أحبط مشروع اللجوء لكافة أفراد العائلة وبقي الجميع في قرية رفيديا ولم يغادروها.

هكذا ببساطة صار أبناء عمي في فلسطين ونحن هنا في الأردن.

شاهدت الدموع وسمعت ما لا يسمع من صرخات القلب المكبوتة تخرج من نفوس الرجال، إنها أيام الـ 67 .. تلك نكسة في انتظار الجبر.

المشهد الثاني

من أشد اللقطات حفرا في الذاكرة، هي منظر جارتنا تعلمنا كيفية أن نضع قطعة القماش المبلولة على انفنا للتنفس تلبية لنداءات الدفاع المدني آنذاك وظنا منها أن الطائرات الإسرائيلية قد تلقي بعض المواد الكيماوية.

ابلغونا بضرورة أن نتواجد في الطابق الأرضي من البيت.. لا أريد أن يظن من يقرا بأننا كنا نعيش في بيت ذو طوابق متعددة، لكنه كان بيتا قديما يتألف من العلية ومن ثم بيت العقد وفي الطابق الأرضي منه بيت عقد قديم أيضا.

كان مرتعا لكافة القوارض .. كان لا بد من إعادة ترتيبه ليستقبل عدة عائلات أثناء الحرب التي لم تدم طويلا، وببراءة الأطفال كنا ندرك ان هناك ما هو اكبر من لعبة " السلوك "التي كنت أفاخر بها وأقودها في حوش البيت.

قد يجهل أبناء الجيل الجديد هذه اللعبة ومن لا يعرفها ليسأل والده فقد يجيبه، لأني كنت ارقب بين الفترة والأخرى الملامح الجادة للكبار والتصاق آذانهم براديو الترانزستر ذو الحجم الصغير الذي يعمل على البطارية وهم يستمعون لصوت العرب ويقفزون فرحا أحيانا متخلين عن وقار الكبار فيهم وتنظر إليهم مرة أخرى كأن الطير قد حط رؤوسهم.

المشهد الثالث

كنت انظر في وجه والدتي والحظ الدمع في عينيها ولم استطع بطفولتي أن اقرأ سبب هذه الدموع هل هي بسبب وجود والدي رحمه الله في الخليج أم أن ذلك بسبب ذهاب أخي الكبير مع الدفاع المدني، استعدادا للطوارئ، أم أن ذلك كان بسبب القلق علينا جميعا.

كنا نسمع بين الفينة والأخرى أصوات قصف متقطع، كنت اسمع الكبار وهم يتحدثون عن معركة تدور في وادي التفاح الذي يقع باتجاه الشمال الغربي من نابلس على الطريق المؤدي لمدينة طولكرم، وتحدثوا فيما بعد عن معارك بطولية قام بها البعض هناك وبالطبع شاهدنا فيما بعد آثار الدبابات المحترقة والقذائف التي كانت مملوءة بقطع من القماش لنسمع فيما بعد عن قصة السلاح الفاسد.

بدأت خيالاتنا الصغيرة ترسم قصصا هي اقرب للخيال منها للواقع عن أولئك الجنود الشجعان الذين خاضوا معركة واد التفاح وتلك المرأة الشجاعة عفيفة التي لا أرى ضررا في ذكر اسمها التي حملت الشهداء على كتفها وقامت بدفنهم في ارض في واد التفاح.

المشهد الرابع

مع اقتراب أصوات المدافع كنت أدرك أهمية أن نتقوقع في الزاوية وقريبا من والدتي كأني بذلك أود أن أحس بالأمان الذي قد يوفرها حضنها.

المشهد الخامس

كان اشد ما كان يلفت انتباهي هي فتاة من جيراننا كانت تكبرنا بكثير بل كانت اكبر من أخي الكبير ولم تكن متزوجة – وكان عمرها حول 17 عاما.

لا زلت اذكر سهيلة تلك الفتاة التي التصق الراديو بأذنها وهي تقفز فرحا عندما تسمع المعلق على صوت العرب احمد سعيد وهو يقول بصوته " ان طائرات العدو تتساقط كالذباب" "واتجوع يا سمك" كنت أراها تكاد تطير فرحا وهي تطلق صيحات هي اقرب للهيستيريا.

لكن ذلك لم يستمر طويلا حين سمعنا صوتا بمكبرات الصوت وهو يطالبنا برفع الأعلام البيضاء علامة منا على الاستسلام وعدم المقاومة، فما كان من سهيلة إلا أن قامت برمي الراديو في الأرض، وأجهشت في البكاء.

المشهد السادس

لا زلت اذكر صوت ابو عبدالله وهو ينادي ابنته ماري ان تبحث عن شيء ابيض تعلقه وكذلك نحن. وأم اليأس تصيح على أختها مرثا بان لا تذهب للحاكورة لان الوقت ليس مناسب لذلك.

فجأة جاء من يهدم هذا الوجوم القاتل وسمعنا الطائرات وهي تطلق زخات من الرصاص وسمعنا بعد ذلك أصوات النساء وهي تصيح، خرجت من البيت راكضا للحارة ومعي بعض الصغار من عمري ركضنا باتجاه الشارع الرئيسي للقرية وكان الصراخ قادما من بيت أقارب لي، لنعلم بعد ذلك أن الشاب عثمان أبو السعود قد استشهد برصاص الطائرات عندما ضربت بين أشجار الزيتون، حيث كان الشباب يعدون الخنادق هناك ظنا أن المعركة ستطول.

المشهد السابع

أشد ما أثار استغراب الناس في رفيديا هو قدوم الجيش الإسرائيلي من الشرق وظنوه الجيش العراقي وقام البعض بإطلاق الرصاص تحية لقدومه.

ولم تنته المأساة عند هذا الحد إذ لم تمض فترة طويلة قبل أن نرى جموع المهجرين من قراهم ومدنهم وهم يضعون بعض ما استطاعوا حمله من متاعهم في منطقة البيادر بالقرب من عين المياه المسماة "عين عويضة"وهم الذين تركوا منازلهم في قلقيلية وحبلة والقرى المحيطة.

كانت تلك المناظر من الاستحالة بمكان نزعها من الذاكرة، ونحن نرى من هم في اعمارنا يبكون ويصرخون وتسمع أنين الكبار، ورأى عقلي الصغير بعض المشاهد الرائعة لأخلاق شعبنا التي فقدنا جزءا منها الآن، رأيت الناس رغم ضيق حالها وهي تسرع ومعها بعض الاكل والملبس والمشرب توفره للجموع التي لم تنقطع وهي تضع سقط متاعها بين أشجار الزيتون والسرو، والبعض الاخر ممن توفرت عنده غرفة أخرى سعى لإحضار إحدى العائلات وانزلها في تلك الغرفة. ولاول مرة كنت اشاهد النساء وهي تخبز على الصاج.

نيسان ـ نشر في 2015-06-09 الساعة 21:13

الكلمات الأكثر بحثاً