اتصل بنا
 

نعمةُ الصمْت

نيسان ـ نشر في 2017-06-13 الساعة 13:05

الضوضاء تقتلنا: أهمية الصمت في عالم مليء بالضجيج.
نيسان ـ

في لحظاتٍ تتكاثر يوما إثر يوم، نحاول أن نتصوّر ما كان عليه العالم قبل ولادتنا، ما كان عليه الصمتُ الحقيقي، الصمت الكوني، الصمت العاري الذي يُظهر الوجود على رحابته ونقائه وسعته. وجود نقي، ناصع، صافٍ، لم تلوّثه أية فكرةٍ، أي صوتٍ، أية رغبة. نستلقي ونغمض أعيننا، ونكاد أن ندخل أطرافنا في أفواهنا، كي نصير أصغر ما نقدر عليه، كي نذوب ونتلاشى غباراً يتطاير، متّحداً بعناصر الكون.
الضوضاء تُميتنا. الضوضاء تضنينا وتعذبنا لأنها، ببساطة، تفوق أية طاقةٍ على الاحتمال. نكاد نتمنّى لو نخلع رؤوسنا عن أكتافنا، نلقيها أينما كان، كيفما اتفق، ونتابع سيرنا من دون أن نلتفت إلى الوراء. شهيق زفير، شهيق زفير.. قال لنا أساتذة اليوغا ذات يوم: أقفلوا رؤوسكم، وانزعوا أنفسكم من الديكور. ادخلوا في التأمّل، وستقاومون ما هو أقوى بكثير. ما هو أقوى بكثير؟ اليوغا أجل. شهيق، حبس النفَس ثوانٍ، ثم إطلاقه زفيرا من الفم. ومع ذلك، استمرّت الضوضاء تسقط علينا نثاراً معدنيا خفيا يتسلل في المسام، مانعا عنها أي أوكسجين. مطرٌ من الإبر المسنّنة، من الوميض الحارق اللاذع، مهما احتمينا منه، سيبقى يسمّم الجلد ويلوّث العقول. صدّقونا يا إخوان، أيها المجانين، العقلاء، الأعداء، الأصدقاء، هي مسألة موتٍ أو حياةٍ لمن بات مثلنا بأعصاب تالفةٍ كأسلاك كهربائية متفحّمة، رائيا في الناس ضباعا مفترسة.
الضوضاء تقتلنا. تقطّع أوصالنا، تثقب آذاننا. أجل، كلها، على أنواعها، مجتمعة ومنفردة، طبيعية كانت أم صناعية، إرادية أو قسرية، سياسية أو فنيّة. ضوضاء الكلام الفاتن، وضوضاء كلام القحط والخواء. ضوضاء الشارع، وضوضاء الناس، ضوضاء التلفزيونات والإذاعات، وضوضاء الألسنة المفسوخة المزدوجة التي تحاول الإقناع. ضوضاء الحرب وضوضاء القتلى وضوضاء القتلة والأسلحة والكلام المقيت النتن المغشوش، المستبيح والمستباح. يمكننا أن نعدّد الأنواع والأصناف إلى ما لا نهاية، وأن نستغرق في الوصف الأمين المملّ. لكن، ما نفع هذا علينا، وقد صارت شكوانا ضربا جديدا من ضروب ما نمقته من ضوضاء.

***
'لا يملك الإنسان ذاته أبدا، كما يملكها في الصمت: خارج ذلك، يبدو وكأنه يندلق خارج نفسه، ويتبدّد في الخطاب، بحيث لا يكون لنفسه بقدر ما يكون للآخرين'.
هذا ما يقوله 'فنّ الصمت'، وهو بحثٌ يعود تاريخه إلى العام 1771، وضعه الأب دينووار، إلا أن قارئه اليوم يجد فيه لعصرنا الحالي صدىً كبيرا لما نحياه اليوم من انفلاش الكلمة، ورغبة الجميع بالهذر واللغو، في مختلف الحقول، بمناسبة وبغير مناسبة. قيل إن الأب أخذ فكرة كتابه عن كتيّبٍ نشر قبل قرن، فطوّره وقام بتوسيعه، ليشمل عدة فصول قد تعطي تلاوتها فكرةً كبيرةً عن مضمون الكتاب الذي ينقسم جزأين، الأول عن الكلام والثاني عن الكتابة. 'إذا كتب الجميع وأصبح مؤلّفا، فما الذي سنفعله بكل هذا الفكر وكل تلك الكتب؟'.
يدعو الكتاب إلى 'الحذر'، أي إلى تبني موقفٍ متحفظٍ ولائقٍ، حيث الصمت من ذهب: 'فليتكلم إذن وجهُك بالنيابة عن لسانك'. كما أنه يصنّف الصمت أنواعا، فهناك الصمت الحذر والصمت المخادع، الملاطف والساخر، الروحاني والغبي... مع توصياتٍ خاصة للشعب والشبيبة وكبار السنّ وأصحاب القرار، ووصف لمكتبة مثالية أشبه بالحلم، تعطي مكانةً خاصةً ومميزةً للكتب 'الجاهزة دائما للرد عليكم حينما تستشيرونها'.
وأخيرا لا آخرا: 'من الأفضل ألا تُعتبر عبقريا من الدرجة الأولى مع البقاء غالبا في الصمت، على أن تعتبر مجنونا يسلّم نفسه لحكاك الثرثرة'... و'الدرجة الأولى من الحكمة هي أن تعرف كيف تصمت. الثانية أن تعرف كيف تتكلم قليلا. والثالثة أن تعرف كيف تتكلم كثيرا، من دون أن تتكلّم بشكل سيئ، ومن دون أن تتكلم كثيرا'.

نيسان ـ نشر في 2017-06-13 الساعة 13:05


رأي: نجوى بركات

الكلمات الأكثر بحثاً