كاتب فوق جليد ذائب
نيسان ـ نشر في 2017-07-11 الساعة 14:24
قائمة الدول المصرّح للكاتب العربي بدخولها تتقلص بسبب انتقاداته للأنظمة العربية، بينما تطول قائمة الكاتب الأجنبي، والكاتب العربي يجري جردة حساب لممتلكاته العربية ويضع علامات حمراء على قائمة الدول الخطرة عليه، ومن بينها مصر وسورية والعراق ولبنان ودول الحصار الخليجي.
ماذا لو كنّا كاتبيْ مقالات، أحدهما عربي هو أنا، والآخر أجنبي، وبيد كل منا قائمة الدول المصرّح لنا بدخولها، فأيُّ القائمتين أطول؟
على الأرجح، لا تحتاج الإجابة إلى تفكير، فكل من يتصدّى لها سيؤشر على قائمة صاحبنا الأجنبي، لكن ما لا يدركه أن قائمتي تتقلص عقب كل مقالٍ أنشره، أيضًا، وتتصاغر مع كل حرف أكتبه.
لهذا، ربما صار عليّ، يوميًّا، أن أفلتر قائمة البلاد العربية المصرّح لي بدخولها، عقب كل مقال أنشره؛ إذ غالبًا ما أتورّط بانتقاد نظام عربي جديد، ما يعني، وفق حسابات الطغاة، أنني غدوتُ بحكم الميت في أرشيف مخابرات البلد المعني.
في المقابل، يجلس الكاتب الأجنبي مثل جلستي، وبيده قائمة تطول يوميًّا، ليضيف إليها، بلداً جديدًا يزمع زيارته في رحلته المقبلة، لأنه يرى في كل مقال يكتبه 'فتحًا جديدًا' في جدار العالم، على عكسي أنا الذي يرى في كل مقالٍ يكتبه خطوةً أخرى باتجاه القبر الضيّق، غير أني سأحاول أن أجري 'جردة حساب' لما تبقى من 'ممتلكاتي' العربية، بعد أن أوشكت 'ثروتي' على النفاد، وسأستعرض قائمة الدول 'الخطرة على حياتي'، فأضع مقابلها علامةً بالقلم الأحمر؛ لأن الأمر لا يحتمل 'المزاح' عند أصدقائنا في دوائر المخابرات العربية:
أولاً. مصر (أم الدنيا): خط أحمر غليظ للغاية، على اعتبار أنني من معارضي انقلاب عبد الفتاح السيسي بشدة، وكتبت في هذا الشأن ما يفوق 'جرائم' ضحايا ميدان رابعة مجتمعين، وعلى الأرجح أن أوراقي ستذهب إلى 'عشماوي'، من دون حاجة للإحالة على 'المفتي' أولاً.
ثانيًا. سورية: خط أحمر غليظ، أيضًا، لأنني عدوّ طاغيتها، وكنت من أشد المتحمسين لثورة ربيعها، قبل أن تلوّثها التدخلات الخارجية، فتتحول إلى فوضى لحى، ولحى مضادّة لا تختلف في طغيانها عن المستبد الأساسي نفسه.
ثالثا. العراق: خط أحمر غليظ؛ إذ لا أعترف، حتى الآن، بنظام نصّبه الاحتلال الأميركي، وعماده المحاصصات الطائفية والجهوية.
رابعًا. لبنان: خط أحمر، لأنه بلد تعبث به، أصلاً، استخبارات النظام السوري، خصوصًا على معابره وحدوده، ما يعني أنه سيلقى القبض عليّ حال دخولي إليه.
خامسًا. دول الحصار الخليجي: خط أحمر غليظ، لأنني لم أقبل مسوّغات حصارها قطر، ورأيت في هذه المبرّرات التي ساقتها محاولة للإجهاز على أي أملٍ بالنهوض العربي، ومن المفروغ منه أنني سأخضع لمنظومة العقوبات المغلّظة التي سنّتها بحق كل من يعارض قرارات الحصار.
ثمة، أيضًا، دول عربية، ليس في وسعي حسم خطرها على حياتي، لأن أنظمتها متلوّنة وفق الريال والدرهم، وربما كان اللون الأحمر هو الطاغي لحظة هبوطي في مطاراتها، فتعمد إلى تسليمي 'مقشّرًا' إلى أنظمة الخطر التي استعرضتها، ومنها، لا على سبيل الحصر، موريتانيا وجيبوتي وجزر القمر، و'يمَن' عبد ربه منصور هادي، وكذلك السودان صاحبة السوابق في هذا المضمار (كما فعلت مع الفنزويلي كارلوس).
بهذه الحسبة، يتراءى لي شبح 'الطفر' القومي أزيد قربًا، بعد أن لم تعد أمامي دول عربية تقبل بي 'خارج المشنقة'، سوى ثلاث أو أربع، ما يعني أن فرص النجاة أمامي باتت ضئيلة، هذا إذا وضعت في الاعتبار، كذلك، أن بلدي، أيضًا قد لا يحتملني، لا سيما في ظل 'حركشات' أنظمة عربيةٍ قد تتقدّم بطلبٍ إلى حكومتي لـ'كتم صوتي'.
على هذا النحو، تكتمل السخرية في حياة الكاتب العربي، حين يضطر إلى خصم حصة من عمره لقاء كل حرفٍ يكتبه، وأن يمحو مع كل كلمة يدوّنها حفنةً من تراب خريطته العربية الذي يقف عليه، ليكتشف، في النهاية، أنه مقذوفٌ خارج الخريطة كلها، تمامًا كمن يقف على مكعب جليد، وعنقه محاطة بحبل مشنقة، ومع كل مقالٍ تذوب قطعة من المكعب تحت قدميه، ليفاجأ بنفسه، في آخر المطاف، متأرجحًا في الهواء.
حينها، فقط، على الكاتب العربي أن يحفر عميقًا، في جوف التاريخ، بحثًا عن شاعر عربي مراوغ، خدعه ذات يوم حين أنشد: 'لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها..'.
نيسان ـ نشر في 2017-07-11 الساعة 14:24
رأي: باسل طلوزي