قمة الغيلان وغضب الجماهير
نيسان ـ نشر في 2017-07-13 الساعة 13:16
الغضب الجماعي والإرهاب: تشابه في الردود والسلوك، والحاجة إلى محاربته بشكل فعال
يتشابه الجمهور، في لحظات الغضب الجماعي، في ردود أفعاله وسلوكه المعبر عن غضبه، فإذا وجدت الجماهير في ظروف تاريخيةٍ ما انفجرت بالطريقة نفسها مثلما لو أن تيارًا كهربائيًا يسري في اللحظة ذاتها في جسد الكتلة البشرية فردًا فردًا، أو رد فعل غريزي، كما غريزة القطيع.
'الإرهاب كارثة عالمية، تجب محاربتها والقضاء على الملاذات الآمنة للإرهابيين'، هذا ما جاء في البيان الختامي لقمة قادة دول العشرين في هامبورغ، وحثّ جميع الدول على منع كل المصادر البديلة لتمويل الإرهاب وقطع الاتصالات إن وجدت. لا يملك هذا التصريح، على الرغم من الإجماع عليه، من قوة التأثير والمصداقية، ما يكفي لكبح جماح الشرائح الغاضبة، ليس في هامبورغ وحدها، بل في كل أنحاء العالم، ولا يجيب عن التساؤلات التي لا تني تكبر وتتعقد في أذهان الأفراد والمجتمعات عن تلك الظاهرة المستفحلة الشرسة المتغلغلة في العالم بأسره، بعنفها ودمويتها ونزعاتها الإقصائية المعيقة للحياة 'الإرهاب'.
وردّد المتظاهرون هتافاتٍ مندّدة بالسياسات الرأسمالية والعولمة، وتدعو إلى حماية البيئة من التغير المناخي. وليس شعار المتظاهرين الصارخ في وجه الرؤساء أو ممثلي الحكومات المجتمعين: أهلاً بكم في الجحيم، سوى صرخة أناسٍ مقهورين، يعيشون في الجحيم بعينه، الجحيم الذي يسبّبه أصحاب القرار الذين يديرون لعبة الأمم بدافع المصالح والمال والتحكّم بالاقتصاد العالمي ومصادر الطاقة، بغاية ربحية خالية من أي التزام أو مسؤولية أخلاقية تجاه البيئة وتجاه البشرية مجتمعة. الربح ثم الربح، والسيطرة على المجتمع البشري، من خلال العولمة التي تصنع مجالاً واسعًا طموحه السيطرة على الكرة الأرضية بكاملها، يعيش البشر فيه، وفق النمط الذي ترسمه، وتشتغل على تحقيقه هذه الغيلان القابضة على الحياة.
نحن نعيش في عالم بلا رحمة، عالم تسوده الحروب والفقر والبطالة والاستغلال وهيمنة القوي على الضعيف. العالم الذي انبثق بعد الثورة الصناعية، ونما بجبروته حتى وصل إلى ما هو
'صار لدى الجماهير ما يكفي من الشعور بالقهر والظلم في عالم اليوم حتى في أكثر البلدان تقدّمًا' عليه اليوم. من قال إن المواطنين في الدول الغنية يعيشون بكرامتهم؟ لقد أصبحوا عبيدًا للآلة بمفهومها العام، عبيدًا للحياة التي يصنعها أصحاب المال، عبيدًا في عقود إذعانٍ، ابتداء من عقد العمل، وصولاً إلى العقد الاجتماعي مع الدولة. في الدول الغنية الرأسمالية، يعيش الفرد حياةً ظالمة، فهو يستهلك ثلثي عمره في العمل ساعاتٍ طويلة كل يوم، تستهلك طاقاته وتذوي روحه، حتى الطفل صار معضلةً كبيرة للزوجين، الزوجين اللذيْن ينفقان عمريهما وجسديهما في اللهاث من أجل مواجهة الحياة التي يفبركها المال وأصحاب الشركات، فيصنعون النموذج الحياتي اللازم لتصريف سلعهم، ويصيغون الوعي العام الملائم لسياساتهم وأجنداتهم، ويتحوّل المجتمع إلى قطيعٍ يعاني، لكن وعيه ذاته يستفيق، بين لحظةٍ وأخرى، وليس أكثر تعبيرًا مما وقع من تظاهرات في هامبورغ.
مجموعة الثماني هي الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وألمانيا الغربية واليابان وفرنسا وكندا وروسيا، وهذه الدول هي النواة الأساسية لقمة العشرين. تشكل تقريباً 14% من سكان العالم ومع ذلك، تمثل ثلثي الاقتصاد العالمي، قياساً بالناتج القومي. وتشكل أربع دول أعضاء فيها 'الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والمملكة المتحدة مجتمعة' 98% من الأسلحة النووية عالمياً'.
كان شاغل القمة المسائل الآنية لوضع الاقتصاد الكلي في العالم، والإمكانات المتاحة لتشجيع التنمية، عن طريق إجراء إصلاحاتٍ هيكليةٍ وتطبيق الاستراتيجيات القومية للنمو. كما كان من الأولويات مسائل تعزيز التبادل التجاري العالمي، وتعميق التكامل التجاري الاقتصادي، ومستقبل منظمة التجارة العالمية. الربح، ثم الربح، حتى لو كان الثمن دمار الكوكب، قضية المناخ التي ترفض الولايات المتحدة، بكل عنجهية، التوقيع على ميثاقها، ولو كان الثمن دمار أوطانٍ وانهيار حضاراتٍ، وموت تراث إنساني، وتشريد شعوبٍ، بخلق بدعةٍ اسمها الإرهاب، وكيانٍ يدعى الدولة الإسلامية التي انبثقت فوق أرضنا، مثل أسطورة مكتملةٍ تمتلك من القوة كل أدواتها المطلوبة في القرن الحادي والعشرين، من مال وأسلحة وتقنيات وأجهزة ذكية ومواقع إلكترونية، وحتى موارد بشرية لجميع المهمات التي يحتاجها التنظيم 'البدعة' من أبسطها، وهي المهمات الانتحارية التي تسند إلى أولئك المغرّر بهم مغسولي العقول، حتى المخططين والمديرين للعمليات والمخططين للسياسات، وانشغل العالم بها، وصارت حقيقةً واقعةً، سُخرت لها دماؤنا وأرواحنا، وتاجر العالم بسببها فوق أرضنا وببلادنا.
صحيحٌ أن أوروبا اجتازت مراحل الصراعات الدينية وتعلمنت، وحل الأيدولوجيات السياسية فيها محل الدينية التي كانت المحفّز الرئيس لتجييش الجماهير، واستغلالها في التحولات الكبرى، وإن الحركات التي شهدتها هامبورغ الألمانية كانت وراءها أحزابٌ يساريةٌ، أو أخرى تهتم بالبيئة. لكن تبقى هناك دوافع أخرى، تسهم في دفع الأفراد للالتحاق بحركة المتظاهرين، حتى لو لم يكن وراءهم أحزاب أو تيارات سياسية، إنه الظلم الذي تعاني منه الشعوب في
'ليس شعار المتظاهرين الصارخ في وجه الرؤساء أو ممثلي الحكومات المجتمعين: أهلاً بكم في الجحيم، سوى صرخة أناسٍ مقهورين' عصر العولمة، وسيطرة وحوش رأس المال. كما لا يمكن إغفال الحروب التي تديرها تلك القوى في مناطق كثيرة، وتأثيرها على كل بقاع الأرض، فالحروب التي تتغوّل في سورية مثلاً، ومشكلة اللجوء الكبيرة وشرخ الرأي العام في دول اللجوء بين حاضنٍ ورافض، وما يحدث هذا الأمر من اضطرابٍ ناجمٍ عن تماس الثقافات والخوف عند جزء من المجتمع المضيف على هويته من المجموعات البشرية الوافدة، مثل الخوف على حياته التي يدفع ضريبة استقرارها من إنسانيته واستغلاله من النظام الرأسمالي الجائر، كل هذا ساهم في رد فعل الجماهير الغاضبة في هامبورغ، على الرغم من استهجان (واستنكار) السلوك العنفي الذي قام به بعض منها، لكنها 'فيزيولوجيا' الجمهور والإحساس بالانتماء اللحظي الذي يمنح الشعور بالقوة، والحق في ممارسة الفردية بلا شروط، في حماية المجموع الثائر.
القضايا العالمية، مثل الفقر في أفريقيا والدول النامية، بسبب الدين الخارجي والسياسة التجارية، والاحتباس الحراري بسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ومشكلة الإيدز بسبب السياسة المتشددة في ترخيص الأدوية، والأمراض التي تفتك بتلك الشعوب، والمشكلات الأخرى المتعلقة بالعولمة، والحروب التي تدار في جهات الأرض الأربع، وتكريس الحروب البينية، وإضرام فتنها الدينية والمذهبية والعرقية والقومية، وافتعال مشكلات وخلافات سياسية مناطقية وإقليمية، كما افتعلت أميركا دونالد ترامب أخيراً، في منطقة الخليج، كل هذا وغيره كثير، مسؤول عنه غيلان المال والتجارة والاقتصاد في العالم.
ها هو 'داعش'، التنظيم البدعة يشغل العالم عن تغوّل هؤلاء الكبار، بمعارك تستنزف طاقات شعوب المنطقة في العراق وسورية، 'داعش' الذي اجتمع عليه جبابرة العالم ولم يستطيعوا هزيمته خلال سنوات ثلاث في الموصل. أما سورية فميدانها ينتظر، 'داعش' الذي قدّر عدد مقاتليه بخمسة وثلاثين ألف مقاتل، لا نعرف كيف ابتلعتهم الأرض، أعلن منذ أكثر من عام أن حرب المدن انتهت بالنسبة لهم، إعلان بمثابة وعيد لمرحلة مقبلة، أو بحربٍ أخرى، لا أحد يتكهّن بطولها ومعاركها. لكن، يمكن التكهّن بدرك أكثر عمقًا ستدفع إليه أوطاننا.
لا أستطيع أن ألوم الجماهير الغاضبة كثيرًا، على الرغم من أن الفوضى التي تبرّر السلوك المؤذي بحق الممتلكات العامة والخاصة أمر غير مقبول، لكن هذه الجماهير صار لديها ما يكفي من الشعور بالقهر والظلم في عالم اليوم، حتى في أكثر البلدان تقدّمًا، هذه الجماهير لم تعد بحاجةٍ ملحةٍ إلى أحزابٍ تستقطبها أو زعماء تلتف حولهم، يكفيها، في عصر العولمة والانفتاح ما يجعلها مدركةً ذاتها باستمرار، تعرف في وجه من ترفع صرختها وقبضتها المهدّدة.
نيسان ـ نشر في 2017-07-13 الساعة 13:16
رأي: سوسن جميل حسن