اتصل بنا
 

شفشاون وأبوابها الخشبية الزرقاء

نيسان ـ نشر في 2017-09-04 الساعة 14:24

تجربة السفر والتدقيق الأمني اللازم يثيران مشاعر متضاربة، ولكن الاستمتاع بجمال مدينة شفشاون في المغرب يجعل الجهد يستحق العناء.
نيسان ـ

أتنفس الصعداء، حال انتهاء إجراءات التدقيق الأمني. يطربني على نحو خاص وقع الختم على صفحات جواز السفر. يعيده الموظف بعد أن يتخلص من تجهمه المتوقع بحكم الوظيفة، إيذانا بأن لا عوائق تحول دون دخول البلد. أعرف جيدا لماذا أتصرف مثل متهمة أمام موظف الجوازات في كل مرة عند أي حدود. تمر الدقائق ثقيلة غير مطمئنة لأي مسافر عربي. أمقت كل تلك الإجراءات. أرضخ لها مرغمة، شأن بقية خلق الله. ينتابني الحزن وأنا أرصد بأم العين معاناة سوريين وعراقيين ويمنيين وليبيين تصدهم الحواجز. تعيد كثيرين منهم من حيث أتوا، وتحتجز بعضهم ساعات طويلة إلى حين البت في أمرهم. أفكر بأسى: أي ذلٍّ هذا.. يهرع المسافرون حال الإفراج عنهم، حيث حزام الحقائب الدوار يلفظ حقائبهم المكدسة بالمشتريات. خطوة أخيرة قبل الخروج، يتحرك الحزام فارغا مدة طويلة. الكل يترقب بلهفة، يتأففون ضجرا وإرهاقا ورغبة في الخلاص.
أغمض عيني في محاولةٍ لاستحضار صور مدهشة من الإجازة، وقد شددت الرحال صوب شمال المغرب، حيث مدن من سحر وجمال وغموض. إقامة في شفشاون، المدينة الزرقاء، واسمها الأصلي اشاون، ويعني القرون بالأمازيغية. تأسست المدينة في القرن الرابع عشر على يد علي بن راشد لإيواء مسلمي الأندلس بعد طردهم من إسبانيا. طابع تاريخي تلمسه بسهولة من الطراز المعماري الأندلسي المتميز. ساحة عمومية في المدينة العتيقة، تدعى ساحة وطاء الحمام، صممت لكي تؤدي إليها كل الطرق.
تستمع، في أثناء مسيرك، إلى كل لغات الدنيا. سياح من بقاع شتى يطاردون الدهشة الرابضة في جنبات المدينة، ذات الطابع الغرائبي. تضاريس صعبة، انحدارات مفاجئة، انكسارات حادّة في الأزقة العتيقة العريقة المتعرّجة المتوارية الغامضة. تقودك على هواها، لتجد نفسك صاعدا باتجاه منبع رأس الماء. بقعة فريدة تنتمي إلى أزمان سحيقة، حيث مفردات الحياة بسيطة سخية. تغذ الخطى مأخوذا إلى قمة جبل شاهق مغطى بالكامل بالأخضر الداكن، محفوفة الدروب الترابية المشقوقة فيه بأشجار التين والصبر. يستدرجك البائع الماكر بحبة صبر مقشّرة في حلاوة العسل، وهو يعرف أنك سوف تطلب المزيد منها. لن تقاوم مقدار العذوبة في هذه الثمرة العجيبة. يغريك بائع التين المقطوف للتو، والمركون على حافة نبع جارٍ، يجسّد فكرة الجمال مجرّدا. يلجم المفردات، ويقلل من شأنها في حضرة البلاغة التي تجود بها الطبيعة. تشتهي مزيدا من الصمت الذي لا يثقبه سوى صوت تدفق الماء في الينابيع المتفجرة، تتيح لحواسك استيعاب هذا الجمال المباغت الذي يغمر روحك المثقلة بالتفاصيل، يغسل عنها ما علق بها من أحزان. يصدمك هذا الكمال البهي، متفوقا على كل توقعاتك بمراحل. طبيعة ضاجّة جرّاء حوار الماء الأزلي الدائر بين جبل أخضر ومدينة زرقاء غافية في عمق وادٍ ذي زرع كثير، تزعق في صباحاته جوقة ديكة، تتبادل الأدوار في تناغم بديع، محتفلة بنهوض الحياة من سباتها، واعدة بالأمل.
يتخلل اللون الأبيض فضاء الزرقة النيلية السائدة، يغطي جدران البيوت الوادعة. تسند رأسك إلى أبوابها الزرقاء البسيطة الحميمة الدافئة المغلقة. ولكن ليس بإحكام كبير، يخيل إليك أن طرقات خفيفة على باب سوف تنفتح على عوالم من فتنة أبواب شفشاون الخشبية الزرقاء وغموضها. تقنعك بأنها تنبض حية، وهي تقتات على وقع خطى العابرين، تصغي إلى همساتهم، يتوفقون لالتقاط بعض الصور التذكارية، سعيا إلى اقتناص لحظة الدهشة التي يرتبها هذا الدفق المتوالي من جماليات المكان الأقرب إلى أصل الأشياء.
للأشياء طعم مختلف في شفشاون، المدينة السحرية النائية. وشكل الأوجاع يبدو لك أقل وطأة.. تغادرها وقلبك مفطور، وقد التقيت بأجمل أحلامك، وتشربتها بحواسّك مجتمعة. يعتريك الأسى، وينتابك الشك بقدرتك على مواصلة الحياة بشكل اعتيادي. تودع الوجوه الطيبة الحزينة التي صادفتها، وتبيح لنفسك أن تحلم بلقاء جديد.
تقفز الحقائب على حزامها الدوار.. تطل حقيبتي بعد طول انتظار، أجرّها إلى حيث بوابة الخروج، غير واثقة ما إذا كنت حقا أريد أن أشفى من وعثاء السفر.

نيسان ـ نشر في 2017-09-04 الساعة 14:24


رأي: بسمة النسور

الكلمات الأكثر بحثاً