معروف البخيت ووصفته الذكية عن (الشخصية بدل الهوية)
نيسان ـ نشر في 2017-09-10 الساعة 10:12
محمد قبيلات...ارتفعت وتيرة النقاشات مؤخرا في العاصمة الأردنية، عمّان، حول موضوع الهوية، فقد عُقدت خلال الأشهر الماضية العديد من الندوات والمحاضرات تحت هذا العنوان، حاول المشاركون فيها أن يقدموا مقاربات تعكس الحرص على ألا تنزلق الجدالات إلى مستويات جهوية متدنية، فبدا الحديث متوافقا على محاولة شرح مفهوم الهوية بصفتها الجامعة غير الموظَّفة لخدمة الصراعات الجهوية المتفرعة.
السياسي والأكاديمي الأردني معروف البخيت أدلى بدلوه، حيث شارك في الحوارات القائمة من خلال ندوة عقدت في منتدى الفكر العربي، الذي يشرف عليه الأمير الحسن بن طلال، حول الهوية الأردنية، قدم فيها البخيت ورقة كان قد نشرها من قبل في جريدة الرأي الأردنية تحت عنوان “محطات من تطور الشخصية الوطنية الأردنية”.
لعل البخيت بوسمه ورقته على هذا النحو، الشخصية بدل الهوية، آثر الابتعاد عن استخدام مصطلح الهوية لما يلفّه من التباسات كبيرة نتيجة التوظيف السياسي للمفردة، فلقد جرى بشكل حثيث تسييس الحديث عن الهوية، ولم يلق الموضوع اهتماما حقيقيا من قبل النخب الأردنية لجهة التأصيل المفهومي، فاستخدم على عجل في التراشقات الشعبوية الدائرة في البلاد، منذ فترة، لحساب أجندات خفية غايتها خلق أجواء من الشحناء بين مكونات الشعب الواحد.
فأغلب الباحثين في الموضوع يتعاملون مع قضية الهوية بوصفها؛ إما حالة ناجزة مكتملة تخص مكوّنا معينا يمكن تعميمها على باقي المكونات، أو أنها ما زالت في طور التشكل فيذهبون فورا إلى استنتاجات العدمية السياسية، ولا يراعي أيّ من الطرفين أن الهوية، أيّ هوية، إنما تظل تعيش حالة من الصيرورة الدائمة القابلة للتكيّف والتطور مع الظروف المحيطة والمستجدة، وأنها أيضا، كما تحمل أسباب منعتها وحصانتها تحمل في الوقت ذاته بذور فنائها.
مواجهة الإسلاميين
البخيت سياسي أردني شكّل حكومتين أردنيتين؛ الأولى في 2005 والثانية عام 2011، وكلتاهما عايشت حالة من الصراع والتوتر مع الحركة الإسلامية الأردنية، حيث أشرفت الأولى على الانتخابات النيابية والبلدية اللتين جرتا عام 2007 وسادتهما حالة من التزوير السافر، حسب تقرير المركز الحكومي الأردني لحقوق الإنسان، أما الحكومة الثانية فقد جاءت في ظروف من التوتر الناجم عن اندلاع حالات من التجاذب مع حراكات المحافظات المطالبة، في ذلك الوقت، بإصلاحات سياسية واقتصادية، كما أن علاقة هذه الحكومة شهدت حالات من التوتر الشديد مع الإسلاميين، حيث تمّت على يدها مصادرة ممتلكات جمعية المركز الإسلامي، وهي الذراع المالية لجماعة الإخوان المسلمين الأردنية.
يحاول البخيت أن يقدم نموذج الشخصية الوطنية الجامعة، فقد تحدث عن تشكل الهوية الأردنية ما قبل الدولة حيث تناغم وتداغم الشمال الأردني بهواه الشامي مع جنوبه المتواصل مع الجزيرة العربية، لتبدأ أول ملامح الهوية الأردنية بصفتها التواصلية مع الجوار العربي، وهذا ما أسس للدور الأردني سياسيا وثقافيا على المستوى العربي في الأزمنة اللاحقة.
يلاحظ أن الدولة الأردنية بدأت صياغة هويتها على أساس قومي، فقد جاء عبدالله الأول ليؤسس دولة عربية، ويظهر ذلك من تشكيلة الحكومة الأردنية الأولى حيث ترأسها المناضل السوري ضد الاستعمار الفرنسي رشيد طليع، ولم يكن في الحكومة سوى وزير أردني واحد هو علي خلقي الشرايري، ودخلها بصفته عضوا في حزب قومي سوري، وليس ممثلا عن مدينة إربد الأردنية الشمالية، وظلت الصفة القومية هي الملمح الأساسي للحكومات الأردنية إلى ما بعد الخمسينات من القرن الماضي، حيث بدأ تراجع المشروع القومي على مستوى الوطن العربي لمصلحة الوطني أو المحلي.
معروف البخيت يتناول بقوة تقاطعات الحوارات القائمة حول الهوية الأردنية من خلال ندوة عقدت في منتدى الفكر العربي الذي يشرف عليه الأمير الحسن بن طلال حول الهوية الأردنية، قدم فيها البخيت ورقة تحت عنوان (محطات من تطور الشخصية الوطنية الأردنية)
الهوية القومية ثم القطرية ثم الفرعية
تأتي ورقة البخيت نوعا من التهدئة لحدة النقاش الدائر في البلاد والمتجدد مع كل حادثة، حيث لم يشهد المجتمع الأردني حالة من الاستقطاب مثل التي يعيشها في هذه الأيام، فلا أسهل من أن ينشأ نقاش طويل عريض ينقسم في المجتمع إلى قسمين، حتى لو كانت الحادثة حادثة جنائية عادية، فيتم جبرها على مواضيع ومسائل الهوية والجهويات الإقليمية.
وهنا تبرز المشكلة في ما طرحه البخيت؛ فهو لا يلبي الرائج في سوق ومزادات أسئلة الهوية، وقد مرّ الناس عليه مرور الكرام، بينما لاقت دعوة نائب إلى ورشة تبحث في عزوف الأردنيين من أصل فلسطيني عن المشاركة في الانتخابات رواجا كبيرا وارتقت حين عقدت، قبل أسبوعين، إلى أعلى سلّم واهتمامات الرأي العام الأردني، حيث تلقفها رواد وسائل التواصل الاجتماعي ودحرجوها إلى حدّ صارت فيه كرة كبيرة تطلبت الكثير من التفسيرات والتوضيحات من أكثر من مستوى سياسي.
كذلك، قضية رفض وزير الداخلية السماح بإجراء احتفال بالذكرى السادسة عشرة لاغتيال القائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبوعلي مصطفى، حيث تحوّلت إلى نقاش هوياتي أعاد نبش مخبوءات العلاقة الأردنية الفلسطينية من عهد أيلول-سبتمبر 1970 إلى الحقوق السياسية المنقوصة للمكوّن الأردني من أصل فلسطيني، وما زالت النقاشات مستمرة إلى هذه اللحظة وتملأ المواقع الإلكترونية وشبكة التواصل الاجتماعي، وقد بلغت من الحدة ما لم تبلغه نقاشات من قبل حول هذا الموضوع.
اللافت أن هذه النقاشات أرعبت حتى من ظلّوا على الدوام يغذّونها ويمدّنوها بأسباب الاستمرار، وهذه تحسب لهم لجهة حرصهم على لحمة النسيج الاجتماعي الأردني، فقد بدأوا بالتهدئة وتقديم طروحات أكثر هدوءا وتُقدِّم الحرص على المصالح العامة على المصالح الفئوية.
أسئلة الهوية عابرة للقارات
إلى هذه اللحظة ظلت أسئلة الهوية مؤرّقة للعديد من المجتمعات، وليس للمجتمع الأردني فحسب، ففي ظل حالة إعادة تموضع إدارة المصالح والنزاعات التي تسود العالم اليوم لجأ الكثير من الشعوب إلى إعادة النقاش الهويّاتي إلى صدارة اهتمامهم، فالهوية الوطنية الجامعة لا تتجلى بقوتها إلا في حالة الصراعات التي تخوضها الدول مع “آخر” خارج حدودها، ومن الملاحظ أن الحروب التي وقعت في العقود الأخيرة، وعلى المستوى العالمي، كان أغلبها حروبا داخلية، أي أهلية، ولا تشكل الحروب بين الدول إلا نسبة قليلة منها، وهذا يعكس أن حالة من الصراعات الداخلية تزداد في المجتمعات المختلفة، وهذا ما يفسر أزمة الهوية والمساجلات المتفشية عنها، طبعا، لا يمكن الفصل التام عن العوامل الخارجية فالعملية معقدة وجدلية.
الدولة الأردنية يؤكد البخيت أنها بدأت صياغة هويتها قومياً، حين جاء عبدالله الأول ليؤسس دولة عربية، ويظهر ذلك من تشكيلة الحكومة الأردنية الأولى التي ترأسها السوري رشيد طليع، ولم يكن في الحكومة سوى وزير أردني واحد
المؤكد الآن أن الهوية الوطنية الجامعة لا تشتد عراها إلا في حال وجود مهدد خارجي، وقد لاحظ صاموئيل هنتنغتون في كتابه “من نحن؟” هذا الأمر في الحالة الأميركية، حيث بدأت عقب الاستقلال تشتد فكرة الهوية الأميركية لتأخذ طريقها إلى القوة، لكنها ما لبثت أن تعرّضت لنزعات الهويات الفرعية والثنائية والعابرة للقوميات التي ظلت تضرب بالهوية القومية وتضعفها إلى أن جاءت أحداث 11 سبتمبر وأعادت الهوية القومية الأميركية إلى المقدمة.
نعم لقد أدت هذه الهجمات إلى عودة الهوية القومية بشكل درامي إلى عزها، فطالما يشعر الناس أن كيانهم الجمعي في خطر يصبح من المحتمل أن يتولد لديهم الإحساس القوي بالانتماء إلى المجموعة الأكبر، أي القومية.
وعلى العكس من ذلك تماما، عند اختفاء المُهدّد الخارجي، فإنه يتم اللجوء إلى تعيين “آخر” محلي داخلي، ومن المؤكد أن المصالح الطبقية لبعض الفئات ستدخل على خط الأزمة، ما يزيد في استشرائها، فتتهيج الحواضن الجهوية؛ سواء كانت طائفية أو إقليمية أو حتى قبلية، وتنضم إلى حلبة الصراع الذي سيكون وقوده المهمشون والمفقرون والمعطلون عن العمل الذين يتوقون إلى توفر مظلة من حماية الجماعة، فينخرطون، متوهمين، في هذه الصراعات من دون حسابات للخسائر.
هذا رد فعل طبيعي أن يلجأ الأشخاص المتخوفون من الصراعات إلى عالم الطائفة المغلق أو إلى المجموعة العرقية حد الانزواء في هوية فرعية تؤمنهم من هواجسهم بوقوع اعتداءات من قبل المجموعات الأخرى ذات الهويات المختلفة.
الحل هو في صدّ نموّ الهويات المنغلقة لمصلحة الهوية الجامعة المنفتحة، وهذا ما يؤسس لحالة من الديمقراطية التي تؤمّن العبور من هذا المأزق الاجتماعي الخطير، من خلال الحدّ من الفوارق الاجتماعية وحالات الإقصاء التي تؤدي بالضرورة إلى الاحتماء في العالم المغلق للهوية المتوَّهمة.
لا بدّ إذن من الإقرار بأن التنوّع عامل داعم للمجتمع وليس مهددا له
كما أنّه لا بدّ من التركيز على بناء منظومة تعليمية تعنى بتطوير الشخصية المتعلّمة لمهارة الحوار مع الآخر، والمدركة لمنزلقات التفاعلات السلبية بين الهويّات الفرعية والتي تنظر للآخر بموضوعية وباستقلال عن الحكم المسبق، وتسعى لبناء التصورات الجمعية ولا تستثيرها عناصر الاختلاف فقط.
لا بدّ إذن من الإقرار بأن التنوّع عامل داعم للمجتمع وليس مهددا له، وأنه آن الأوان لبناء جسور من الثقّة بين المكونات لتقوم علاقة مبنية على المصالح المشتركة ليس الصراع والتنافس من أساساتها أو أدواتها.
ولذلك يركّز البخيت على مرحلة ما بعد الدولة، فيسرد تاريخ التأسيس وما سبقه من إرهاصات تجلّت في مؤتمر أم قيس الذي عقد عام 1921، ويُعتبر أول هيئة ممثلة للمكوّنات الأردنية تلتئم على مطالبة وطنية صريحة بتشكيل الدولة الأردنية، ومن ضمنها بند القبول بحاكم عربي في حال الاختلاف على التوافق على شخصية محلية.
وبذلك يجعل من مؤسسات الدولة، الجيش والتعليم، عوامل بارزة في صهر الهويات المحلية لتتولد الشخصية الأردنية بهويتها الوطنية الجامعة.
العرب اللندنية