صناعة المظلومية في فلسفة اليسار الجديد
نيسان ـ نشر في 2017-09-29
محمد قبيلات...ليس من سبيل تراه عيون اليساروية الجديدة الآن، للخروج من الأزمة المُلمّة بها، غير صناعة مظلومية ما، فبعد كل هذا الافلاس الذي جنته تلك المجموعة من التحاقها بالدكتاتورية، تسعى اليوم إلى الخروج إلى الشارع، أو الخروج منه تماما، ببكائية مطولة تتعايش مع سرديات المظلوميات التاريخية، بغية منها لممارسة الأنزواء والتحوصل إلى وقت تحين به الفرصة للإنتقام والثأر.
لم يروِ لنا التاريخ في قصصه ما ينفي عن المظلومية خروجها عن كونها أداة سياسية غايتها تحقيق هدف ما، يندرج، على الأغلب، ضمن مسيرة السعي إلى السلطة، وسيلتها التحشيد للأقلية من أجل أن تلملم الكتلة الصلبة ألتي تحاول أن تعود من خلالها إلى سابق عهدها، أو أن تحقق ما تطمح إليه من أهداف جديدة.
يربط البعض المظلومية بشيعة الاسلام، التي تدل عليها ممارسات هذه الطائفة من خلال البكائيات واللطميات على الحسين، لكن الحقيقة أن أول مظلومية في الاسلام كانت المظلومية الناتجة عن مقتل عثمان، لكنها ليست الحالة الأولى أو المنفردة على الاطلاق، ولم تكن المظلوميات محصورة بما ورد من قصص الأديان، كقصة صلب المسيح أو مظلومية موسى، ففي التاريخ ما هو أكثر دلالة على ما يجري الآن، ولعل أبرزها مظلومية الإسكندر ذو القرنين، الذي استثمر مقتل والده فيليب ' الأعور' كذريعة لاجتياح العالم، وممارسة الاستبداد، والقضاء على فكرة الديمقراطية الوليدة.
وللانصاف؛ لا بد من الاعتراف بأن المظلومية شكلت حالة تقدمية في طور تاريخي ما، ذلك في كونها أول أداة سياسية أستخدمت للتحشيد على أساس عاطفي معنوي، وليس على أساس غريزي يعتمد رابطة الدم والقربية، إلّا أن هذا لن ينسحب على كل الأزمان والحالات، فاليوم باتت المظلومية أداة بائدة، لأنها لا تراكم غير الأحقاد والسعي للانتقام، بينما سبل الصراع وأدواته، في يومنا هذا، وبرغم وحشيتها، فقد باتت أكثر مدنية وانسانية.
لذلك نرى الأطراف المتحاربة، بشكل عام، تحاول أن ترفع شعارات انسانية وأخلاقية براقة تبرر ضلوعها في القتل والاقتتال، لكننا اليوم نعايش حالة اعادة انتاج غير متقنة، يمارسها بعض البكائين من المنغمسين بنياحات ذكر محاسن ومناقب الفقيد، وتحميل الجميع وزر مقتله، بصفتهم إما محرضين أو منفذين أو شامتين، أو حتى متابعين حياديين للحادثة.
الكارثة أن المجموعة إياها لم تكتف باللطم والنياحة والبكاء، وعيش دور اليتم، بل إنها تتمثل اليوم دور اللطيم، وهو فاقد الأم والأب، فقد جرت العادة، وبعد موت الأب، أن تقوم الأم بالرعاية وتصليب أعواد الأيتام بغية انتخاب ' ذكر' جديد يقوم مقام الأب القتيل، لغاية محددة، وهي أن يتبوأ موقعه الطبيعي ويمارس دوره الغريزي في قيادة وحماية ورعاية المجموعة.
لكن، وبسبب غياب الأم، تشرد لطماء العائلة الواحدة، من يساريي الصدفة، وصاروا يكيلون التهم بكل الاتجاهات، على سبيل التنصل من حالة السقوط الأخلاقي، الناجمة عن تأييد الطاغية، والتي جعلت منهم مجرد متسولين يمارسون التسكع على أبواب اللؤماء، فلم تعد تسعفهم حجة المؤامرة، أو احتفالية النصر المزعوم، المحفوف بالقواعد الأجنبية، حتى صاروا مضطرين للاستنجاد بحجج أخرى، ربما أقل وهنا، كصناعة مظلومية خاصة.