اتصل بنا
 

كلُّ شيء زائل

نيسان ـ نشر في 2017-10-02 الساعة 16:28

الأساس الفني: سوق الفن يتحول إلى بورصة مالية تسيطر عليها الرأسمالية والربح، حيث تباع الأعمال الفنية بأسعار قياسية تتجاوز الملايين من الدولارات، دون وجود منطق فني أو جمالي يحكم هذه الحركة السوقية.
نيسان ـ

صار الفن سوقا. صار بورصةً مثل أيّ بورصةٍ أخرى. أتحدَّث عن الفن التشكيلي الذي ضربت تداولاته المالية أرقاما قياسية، ما تني حتى تحطمها أرقام أخرى على كتلةٍ أكبر من الدولارات، من دون منطقٍ يحكم هذه الحركة السوقية (الرأسمالية، بالتأكيد) سوى فكرة 'امتلاك' الجمال عند بعضهم، والربح عند آخرين.
عندما بيعت لوحة من لوحات عبّاد الشمس التي رسمها فان كوخ، بنحو ثلاثين مليون جنيه إسترليني، طارت بالخبر وكالات الأنباء العالمية، باعتباره حدثاً غير مسبوق. وبدأت، مذ ذاك، 'سوق' اللوحات ماراثوناً من الأرقام القياسية التي يبدو أنها لن تتوقف. آخر تلك الصفقات، غير القابلة للفهم والتصديق، بيع تمثالٍ لرجل نحيل يقف على عربة لجياكومتي بنحو مائة مليون دولار! وهناك لوحات لبيكاسيو تجاوز 'سعر' الواحد منها 150 مليون دولار.. ما هذا؟ أي منطق يحكم هذه 'السوق' الخاصة، فقط، بأصحاب المليارات؟ لا منطق فني ولا جمالي ولا حتى مالي. فلو عرف فان كوخ الذي مات في مصحته النفسية بطلقة صوَّبها إلى رأسه المكتظ بالغيوم السود، والحقول الملوَّنة، والشعور العميق بـ 'الفشل'، لمات فور سماعه الخبر، وهو الذي مات، أول مرة، فقيراً، مجنوناً، وفوق ذلك، فناناً 'فاشلاً' لم يبع في حياته القصيرة سوى لوحة واحدة، 'دبَّرها' أخوه تاجر الأعمال الفنية.
ماذا يعرف هؤلاء الذين يرمون عشرات الملايين في صالات المزادات الفنية عن الأعمال التي يشترونها؟ بل ماذا يعرفون عن الفن عموماً؟ نتفٌ من هناك وهناك. كل ما يعرفونه، بحق، هو أرصدتهم التي لا نعرف كيف تراكمت في البنوك. تحدثت عن لوحة عباد الشمس لفان كوخ، لأنها بدأت هذا السباق المليوني المسعور. كان ذلك مع دخول رجالات المال اليابانيين على خط 'الحياة الغربية' بالين القوي، المسنود بسوقٍ تجارية اجتاحت أعتى قلاع العالم الرأسمالي الغربي. كان الغني يسمّى، إلى فترة قصيرة سابقة، مليونيراً. كان المليون رقماً قياسياً ينقل صاحبه من عالمٍ إلى عالم. من يتحدث عن المليون اليوم (سوى برامج من يربح المليون؟). المليارات، عشرات المليارات هي التي تستأهل أن يسمّى صاحبها، اليوم، غنياً، ولكن ليس على طريقة المتنبي: أنا الغني وأموالي المواعيدُ. فلا مواعيد ولا كافور ولا المسعى الغامض الذي كان ينقل المتنبي من بلدٍ إلى بلد، وإنما هي أرصدةٌ ماليةٌ مكلَّلة بتيجانٍ من الأصفار الستة.
دعونا نعطي امتلاك هؤلاء المليارديرات أعمالاً فنية لكبار الفنانين بعض الوجاهة. فربما ليس المزيد من المال ما يسعون إليه. ربما الصيت. وهذا ينبطق على من يعلنون هويتهم. وربما 'امتلاك' الجمال الذي ينقص حياتهم المادية 'القبيحة'. وربما الخلود. كأنَّ في امتلاك ما يظنونه خالداً (أي الفن) يصبحون، هم أيضاً، خالدين! وهذا طلبٌ بشريٌّ مستحيل قديم. قدم كلكامش وسعيه إلى تلك العشبة التي سترمم الجزء البشري فيه (باعتباره مكوَّناً من ثلثي إله وثلث بشري). لكن هناك من لا يفكر في الفن باعتباره خالداً، أو باقياً، فبما أن الزوال هو الحتمية التي لا مفرَّ منها لنا، ولكل ما نقوم به، فلِمَ على الفن، صنيع أيدينا، أن يكون عكس ذلك؟ هذا ما رأيته، قبل أيام، في كليب قصير عن عمل لفنانة أميركية رسمت عملاً فنياً دائرياً على نحو دائرية متحف هيرشهورن في واشنطن، ولكن شريطة أن يُزال!
لعامٍ واحد بقي هذا العمل الذي استغرق الفنانة الأميركية، لين مايرز، أشهراً من التخطيط والرسم على جدار المتحف، ثم قام العمال بطليه بدهان أبيض، بعد انتهاء 'التعاقد'، الفعلي والمعنوي، بين المتحف والفنانة، ليحلَّ محلَّه، ربما، عمل فني 'زائل' آخر. لا نسخة أخرى من هذا العمل الفني سوى التخطيطات الأولى، والفيلم الذي وثقَّه. هناك صور أخرى استقرَّت في ذاكرة الذين زاروا المتحف، وهذه بدورها تتبدَّد شيئاً فشيئاً.
هذا هو المفهوم الفني الذي أشتغل عليه، تقول مايرز بلا تفجّع. بل بلا استغراب سؤال من يسألها: كيف تقبلين محو عملك الفني بدهانٍ أبيض، لا يُبقي منه ولا يذر؟
لكل شيء دورة حياة. وهذا ينطبق على العمل الفني. تقول مايرز. محو العمل الفني لا يقلُّ أهميةً عن العمل الفني نفسه. لقد انتهت مهمته. أدى دوره، وجاء وقت أن يذهب.
كلُّ شيء زائل، صحيح. ولكن هذا الزوال، هنا، مقرَّر سلفاً. إنها هي ربُّ عملها (بالمعنيين)، وهي من ينهي أمره. ربما أعود، مرة أخرى، إلى هذا الزوال الحزين.

نيسان ـ نشر في 2017-10-02 الساعة 16:28


رأي: أمجد ناصر

الكلمات الأكثر بحثاً