اتصل بنا
 

في صحبة الألوان

نيسان ـ نشر في 2017-11-13 الساعة 14:43

نيسان ـ

في الحافلة التي سارت بي من عمّان جنوبا باتجاه العقبة، وضعت رواية أليف شافاق 'بنات حواء الثلاث' جانباً. على الرغم من درجة التشويق العالية في سطور الرواية التي تجذبك، رغما عنك، للانخراط كليا في عوالمها. لم أشأ لها أن تلتهم الطريق بأكمله، فيفوتني مشهد الجبال وتشكيلات الصخر واللون الترابي الأخّاذ، كلما اقتربت إلى الخليج هبوطا من رأس النقب.. فضاء من الجمال الربّاني الفطري، والأفق مفتوح أمام ناظريك، يفسح المجال لروحك أن تتأمل في عظمة الوجود. سائق الحافلة مغرمٌ بصباح فخري. بنزقٍ أتبادل مع السائق السمّيع نظرة انتصار متواطئة، وصباح فخري ينتقل إلى أغنية 'مالك يا حلوة مالك'. تلوح زرقة البحر الأحمر من بعيد، متوارية خلف البنايات الضخمة التي غزت المدينة العتيقة. مولات، شوارع عريضة، فنادق كبرى تطاولت في البنيان، وفرضت مظهرا حداثويا، فاجتذبت عددا كبيرا من السياح من مختلف الجنسيات، وقد وجدوا في المدينة ملاذا آمنا، بالقياس إلى المناطق المجاورة.
وصلت إلى الورشة في الموعد المحدّد، وقد دُعيت ضمن فعاليات سمبوزيوم إيلة الدولي للفنون.. برنامج مبتكر يوسع دائرة التشكيل، لتشمل كل أشكال الإبداع. فكرة رائدة قدمها ونفذها الفنان الأردني محمد الجالوس، محرّضا، مثل عادته، القطاع الخاص على الالتفات إلى الفن، والتورّط فيه، باعتباره رديفا أساسيا في عملية نهوض الشعوب، عبر تثقيفها جماليا وبصريا. استجابت شركة إيلة لهذا المقترح، وقدّمت التسهيلات اللوجستية المطلوبة لإنجاز ست وثلاثين لوحة، أنجزتها نخبة من أبرز الأسماء التشكيلية في مصر والمغرب وفلسطين والأردن وقطر والعراق والبحرين، إضافة إلى أوكرانيا وأميركا، في ظروف مريحة محفّزة على الإبداع.
في المقابل، قدّمت نخبة الفنانين المتميزة أعمالا مبهرة على سوية فنية عالية، أصبحت من مقتنيات الشركة الكبرى، في تجسيد بليغ لفكرة الشراكة الحقيقية بين الفن ورأس المال، يتراجع من خلالها مفهوم الرعاية، بمعناها الكلاسيكي، حيث طرف قوي قادر وطرف ضعيف يستحق الرعاية والتبني، وهو مبدأ بات قاصرا في أيامنا هذه. وكان الشاعر يوسف عبد العزيز قد غادر لتوه، بعد قضاء يوم صحبة الفنانين، امتزجت فيه القصيدة مع اللون. لمحت الفنان الكبير جورج بهجوري ينفث الأرجيلة، فيما هو منهمكٌ في رسم بورتريه لأحد المشاركين، ويتذمّر من سرعة انطفاء الفحم. رسم بورتريه جميلا لي، قرأت له في الأثناء واحدة من قصصي، بينما الجالوس يدير بهدوء ربّان، وبانتباه كبير إلى أدق التفاصيل، مركب الجمال السائر برويةٍ، نحو مزيدٍ من الإبداع. يراسل المطبعة في عمّان، ويرسل الصور تباعا، لأنه يريد أن ينهي طباعة الكتاب المرافق، قبل موعد المعرض المزمع إقامته في أبرز ميادين العقبة، تتويجا لائقا بهذا المنجز العظيم.
تلفّ الفنانة القطرية، ابتسام الصفار، عنقها بكوفية فلسطينية، وتبتسم بانطلاق، محاطةً بزملائها من كل البلاد العربية. قلت لها ممازحة: انتبهي، إنهم يحاصرونك.. ضحكت، وهي تعرف أنها محاصرةٌ بالحب والجمال فقط. قلت لها: لوحتك البديعة الصامتة هذه هي الرد الأمثل على صاروخ 'قولوا لقطر' الذي يمثل الفن عندما يهون ويرخص وينحط إلى الدرك الأسفل. الأميركي توماس، ابن نيويورك، يرسم مفرداتٍ فلسطينيةً مألوفة، تعبيرا عن دعمه القضية الفلسطينية. وتيسير بركات، الغزاوي المقيم في رام الله، يحكي، في لوحاته، وحشة الإنسان المعاصر. مها إبراهيم، المصرية الصغيرة، ترسم أكواما من الأحذية، لعلها تعبر عن رؤية الشباب للمرحلة. أما مواطنها بهاء، صاحب النزعة السوريالية، فإنه يستخدم رموزا فرعونية، في التعبير عن رؤية وجودية عميقة. وهاني العراقي يتكئ على الأسطورة البابلية، يستحضر عشتار، في تأكيد على خلود الفن في مواجهة العدم. وعباس يوسف يجسد صورة فذة لبهجوري، بأعوامه التي تجاوزت الثمانين، وما زال قادرا على بث طاقة الحياة والفرح في نفوس المجموعة المبدعة التي أنجزت في أسبوع أعمالا رائعةً جديرة بالمشاهدة.
يوم استثنائي من الجمال الخالص، كفيل بغسل ما علق في الروح من حزنٍ وخيبة.. شكرا لمحمد الجالوس، ولكل القائمين على المشروع النبيل الذي يؤكد رسالة الفن، في مواجهة كل أشكال القبح الراهنة.

نيسان ـ نشر في 2017-11-13 الساعة 14:43


رأي: بسمة النسور

الكلمات الأكثر بحثاً