لماذا تُسلب الشعوب حق محاكمة طغاتها؟
نيسان ـ نشر في 2017-12-12 الساعة 16:47
ليس بالضرورة أن تحمل العبرةُ حكمة، فالعبرة هي تذكير بتجارب مريرة أو مؤلمة، من أجل عدم تكرارها، من دون أن يتطلب ذلك شرحًا للمعنى، أو السيرورة التي أوصلت إلى التجربة، هي مثلما لو كانت موعظة أو درسًا في التعلم، لكن التعلم لا يعني دائمًا التفكير المنطقي، ووضع مقدماتٍ بغية الوصول إلى نتائج، فكل المخلوقات تتعلم بالتجربة ما يخدم بقاءها أو يلبي حاجاتها، لكن ليست كل المخلوقات تمتلك عقلاً له وظائف لا تُحصى، وله القدرة على التلقي والحفظ والجمع واستدعاء القرينة والاستقراء والتحليل والربط والتخييل والتكهن، وإلى آخره من العمليات التي يمكن للعقل البشري أن يقوم بها، كما أن بقية المخلوقات، على حد علمنا وما استطعنا فهمه من سلوكها ونمطها الحياتي، ليس لديها منظومة أخلاقية تلتزم بها، وقد تطورها بحسب ما يتطلب تعقد الحياة في كل مرحلة.
الطغيان سلوك بشري مذموم ومكروه ومرفوض من كل المنظومات الثقافية للشعوب، على الرغم من أنه سلوك ضارب في القدم، والطاغية بأبسط تعريف معجمي شديد الظُّلم، متكبِّر عاتٍ، جبَّار، عنيد، يأكل حقوق الناس ويقهرهم. وإذا كانت مرادفات الطغيان هي إِجْحاف، اسْتِبْدَاد، اضْطِهَاد، بَغْي، تَحَكُّم، تَدَفُّق، تَعَسُّف، تَفَرُّد، جَوْرٌ، حَيْف، سَيْل، شَطَط، ضَيْم، طُوفَان، ظُلْم، عَسْف، غَشْم، فَيَضَان. فإن تجارب التاريخ، وتاريخنا بشكل خاص للأسف، يمكن أن يزيد حوض هذه المترادفات لما أظهره الطغاة الذين تعاقبوا علينا من ممارساتٍ وسلوكٍ يفوق الوصف، وتضيق به تلك المعاني والمرادفات، ولما ابتدعوه من ممارساتٍ وأساليب تجبُّر وقهر، بزّت ما قبلها، مستثمرين ما يقدّمه العصر من أدوات تخدم طغيانهم.
وإذا كانت المعاني المعاكسة لتلك المرادفات هي العَدْل، العَدَالَة، القِسْط، الإقْسَاط، الإنْصَاف،
'قتل الطغاة بالطريقة الاحتكارية الثأرية البدائية سدّ في وجه الشعوب' التَسامُح، الحَقّ، الرَحْمَة، الشَفَقَة.. تضاف إليها الحاجة إلى الحياة الإنسانية الكريمة، والإحساس بالذات وامتلاك الحرية التي هي حق أي مخلوق، والطموح والإبداع والمساهمة في رسم المستقبل، وغيرها من مفردات العيش اللائق بحياة البشر، فإن انتفاضات الشعوب العربية هي أبسط الحقوق في وجه طغيان شرس جبار. لكن شعوبنا لم تعامل إلى اليوم معاملة الشعب الذي من حقه أن يعيش وينهض وينمو، ويرسم مستقبله، ويكون له موطئ قدم في مسيرة الحضارة الإنسانية، ولم تُمنح حق أن يكون لها ثوراتها التي تقلب من خلالها واقعها، وتقضي على الطغيان والطغاة. إعدام طغاتها بهذه الطريقة هو انتهاك للقيم وحقوق الشعوب. انتهاك للقوانين والعدالة والعدل، الطاغية يمارس طغيانه على الشعب بالكامل، حتى على المرتبطين بعجلة طغيانه، فبأي حقٍ ينهي أي طرفٍ بمفرده حياة طاغية، ويحيله إلى العدم، بطريقة موغلة في الثأرية والوحشية والعنف؟ بأي قانونٍ يستأصله من الحياة بحكم نهائي قطعي، ينفذ ميدانيًا من دون محاكمة، أو استدعاء لأسباب الحكم ودواعيه التي لن تتسع لها صفحات مجلدات؟ بأي ادعاءٍ تحتكر مجموعة من شعب كامل حق تقرير مصير حاكم، مهما بلغ من الطغيان من دون أن يكون للشعب كلمته؟ لماذا وضعت القوانين، ولماذا أُقرّت المحاكمات، وما الغاية من قانون العقوبات؟ وأين هو الشعب الذي يشارك في تقرير مصيره ومصير حكامه؟
إن محاكمة طغاتنا سلوك عميق يحمل معاني غاية في الخطورة، ليس على الطغاة، بل على مصير شعوبنا، إنه تكريس للدونية والعبودية والتابعية والربط، تكريس لتوصيف شعوبنا بأنها قاصرةٌ غير قادرة على إدارة حياتها. لم تزل محاكمة صدام حسين ماثلةً في خلد شعوب المنطقة، وصمة انتهاك دامية للذات، المستبد الذي شكّلت له آلة الاحتلال محكمةً تستخف بضمائر شعبه والشعوب العربية الأخرى وعقولهم، وينفذ حكم الإعدام فيه على يد جندي أميركي، تفرض بلاده وصايتها على مبدأ الديمقراطية، وتحتل الشعوب وتدمر الأوطان تحت هذه الذريعة. أميركا التي احتلت العراق بناء على أكاذيب، وتركته للفتن تستنزفه وتنهكه حروبه، وتسلبه القدرة على أن يقوم من تحت ركام أنقاضه، وحرم الشعب من أن يمارس عدله وعدالته. معمر القذافي الذي عرضت عملية قتله والتمثيل به على الشاشات صورة عن الوحشية تعجز عن وصفها الكتب، وحرم الشعب من أن يحاكم طاغيته، ويمارس عدله وعدالته، وتركت ليبيا لمصيرٍ يجب أن يوصلها إلى ما قبل الكيانات السياسية. وها هو علي عبد الله صالح يلقى المصير نفسه، وتعرض صور مقتله على الشاشات، من دون أدنى اعتبار للمشاعر التي يمكن أن يثيرها عرض العنف والوحشية بهذه الطريقة، كما التمثيل بالقذافي، تاركين اليمن الذي فاقت حالة شعبه أي وصفٍ من مرض وفقر وتجويع وحصار، يقف على مشارف بركانٍ جديد، ستفجّره عملية القتل المعروضة بوحشيتها على الملأ، لن توفره نيّات السعودية وحلفائها، وإيران، المتحاربة بشراسة فوق أرضه.
قتل الطغاة بهذه الطريقة الاحتكارية الثأرية الوحشية البدائية هي سدّ في وجه الشعوب، قتل لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، قتل لمبدأ التشاركية، قتل لمبدأ الديمقراطية وإتاحة الفرص لجميع مكونات الشعب، قتل لمفهوم القانون وسيادته، قتل للنزاهة والعدل والعدالة، قتل للتطلع نحو المدنية والحضارة، قتل للحافز. هي رسالةٌ موجهة إلى الشعوب، وليس إلى طغاتها الباقين على قيد التحقق والإنجاز والممارسة، فلو كان الدرس في العبرة لكان الطغاة اعتبروا، لكنه ليس عبرةً للطغاة، بل هو عبرة للشعوب، كي لا تنهض من شللها وبرك دمائها وعجزها. قتل الطغاة، بعيدًا عن إرادة شعوبها وقرارها، هو محاكمة للشعوب، لا لطغاتها، فلو بقي الطغاة لمصيرهم يقرّره الشعب لكان مسلسل الجرائم التي ارتكبوها طويلاً بطول قهرهم شعوبهم،
'إن محاكمة طغاتنا سلوك عميق يحمل معاني غاية في الخطورة، ليس على الطغاة، بل على مصير شعوبنا' ولاكتشفت ارتباطاتهم وتواطؤاتهم وعمالتهم وبيع أوطانهم أو أجزاء منها، ولسئلوا عن ثرواتهم التي تعدّ عشرات المليارات التي لم يرثوها عن آبائهم، وغيرها الكثير. القوى المتحكمة في منطقتنا، من إقليمية ودولية، لا تريد للطغاة محاكمة حقيقية تمارسها الشعوب، فاشتراكها بجرائم الطغاة سيفضحها أكثر أمام شعوبها، وأمام الرأي العام العالمي الذي لم يعد غافلاً عما تمارسه الإمبريالية، والاحتكارات الدولية ورؤوس الأموال. لم تعد الشعوب في العالم المتحضر غير مكترثة إلا بما تقدّم لها حكوماتها، صارت هناك تطلعاتٌ إلى ما وراء الحدود، صار هناك اهتمام بالقضايا المشتركة للبشرية، والدلائل عديدة، ليس آخرها المظاهرات المناهضة لليمين الشعبوي المتطرف في أكثر من بلد أوروبي، أو التظاهر في هامبورغ منذ أشهر أمام مقر اجتماع الدول العشرين.
صحيحٌ أن طغاة منطقتنا مارسوا شعار إلى الأبد، من اعتقال معارضيهم من دون محاكمة اعتقالاً مؤبدًا، إذا لم يمارسوا التصفية والقتل العمد أو تحت التعذيب، إلى مؤبد حكمهم واستبدادهم وسرقة مقدرات شعوبهم، لكن محاكمتهم يجب أن تكون على أيدي شعوبهم، ليس محاكمتهم وحدهم، بل محاكمة من ركبوا موجة الربيع العربي وارتكبوا جرائم حرب واستغلال وقهر، مثل الطغاة الذين ثارت الشعوب عليهم، وأستبعد أن يكون بينهم من يمتلك الجرأة على الانتحار، قبل أن ينفذ به الحكم، فهم أجبن من أن يفعلوها، لكن شعوبنا ما زالت تعيش الهزيمة في أعماقها، ولا تستطيع أن تصدّق جبن طغاتها، أمام جبروتهم الفائق.
إلى متى سيبقى الغرب والشرق وأدواتهما يسلباننا حقوقنا حتى في محاكمة قاتلينا؟ إلى متى سنقبل منهما أن يكرسا في دواخلنا العنف والثأرية والقبلية والتطرّف والخلاف البيني والجهل، ويقصيانا قرونًا نحو ماضينا العابق بالدم والاغتيالات والعنف والهمجية والحروب المذهبية والطائفية، بينما هذا العالم المستكبر يدافع عن منجزات شعوبه التاريخية، ويتطور وينجز، ويشكل المحاكم الدولية، البعيدة عن فكرة العدل والعدالة، المخصصة لنا، وللشعوب التي تشبهنا، نحن الشعوب التي لم نعرف إلى اليوم أن تكون لنا قوانيننا وأسس حياتنا ومحاكمنا العادلة.
نيسان ـ نشر في 2017-12-12 الساعة 16:47
رأي: سوسن جميل حسن