اتصل بنا
 

القادة التاريخيون أضاعوا السخلة

نيسان ـ نشر في 2017-12-17 الساعة 16:09

نيسان ـ

في سنة 1994، بعد مقتل ابن حافظ الأسد 'الباسل' في حادث سيارة، هَبَّ الرفاق المناضلون في دمشق والمحافظات الأخرى، هَبَّةَ رجل واحد، لتغيير أسماء الدوائر والمؤسسات والمنشآت الحكومية والشوارع والأزقة في مختلف أنحاء البلاد، لتحمل اسمَ 'الباسل'، بعدما رَفَّعُوه من رتبة قتيل إلى رتبة شهيد، لم تسلم من هَبَّتهم الشُّجَاعةِ صالةٌ في إدلب تحمل اسم الشاعرة الخنساء التي طفقت تبكي أخاها صخراً، حتى ظن الناس أنها لم تقطع الأمل بعودته إلى الحياة.
حضرنا، ذات مرة، في صالة الشهيد الرائد الركن باسل الأسد (الخنساء سابقاً)، مهرجاناً خطابياً بمناسبة مرور عدد من السنوات على نجاح انقلاب حافظ الأسد الذي تمكّن، بموجبه، من وضع سورية في آخر دول العالم من حيث التطور الحضاري.
بعد ثلاثة أو أربعة خطباء، جاء الدور على عضو في فرع الحزب، كانوا قد عينوه ممثلاً عن صغار الكَسَبة، فاستلّ ورقة مكتوبة أكبر من الشرشف السبعاوي، السببُ في اتساعها أنه يكتب بأحرفٍ كبيرةٍ، حتى يستطيع القراءة بسهولة. ومع ذلك، أشكلتْ عليه قراءةُ إحدى الكلمات، فصار يقول ويتهجّى: إنَّ الإمْـ.. الإمْبِـ.. الإمْبِرْ.. فصاح أحد الحاضرين: الإمبريالية خاي، الإمبريالية..
ضجّت القاعة بالضحك، وشعر الخطيب بالخجل، وتابع القراءة حتى وصل إلى الدمــ الديمـ الدمقــ.. فصحّح له الرجل قائلاً: الديمقراطية أبو الشباب، الديمقراطية.. فازداد الخطيب ارتباكاً، وشرعتْ يدُهُ التي تمسك الورقة ترتجف، حتى كادت أن تبلغَ ما يسمونه في الفيزياء 'حادثة الطنين'. ووقتها أراد أحد المعجبين به أن يخفّف عنه الحرج، ويتملقه، عسى أن ينتفع منه في المستقبل، فأخذ منه الميكروفون، من دون استئذان، وقال مخاطباً الجمهور:
- أيها الأخوة المواطنون، إن هذا التصرف الأحمق، من هذا الرفيق الأرعن، يدل على جهل وتخلف وقلة إيمان بالثوابت القومية.
فما كان من الخطيب إلا أن أحنى رأسه متواضعاً، وقال للرجل: دعه، يا أخي، فهذا رجلٌ من الجماهير الكادحة، وواجبنا نحن أن نرعى الجماهير، ولا يجوز أن نكسر خاطره.
في هذه اللحظة، حصل الشيء الذي لم يكن على البال ولا على الخاطر، الشيء الذي جعل الجوَّ في القاعة يتكهرب إلى أبعد الحدود، ذلك أن أحد الحاضرين وقف، وقال للخطيب: أمِنْ كل عقلك، يا رفيق، تعتبر نفسك راعياً، وتعتبرنا نحن جماهيرَ كادحة تحتاج إلى رعاية؟
قال الخطيب بطريقة تهكميةٍ عدوانية: هذا إذا لم يكن لدى حضرتك مانع، يا أفندي. فقال الرجل: اسمع، يا رفيق، بودي أن أحكي لك قصة تعجبك، وتطربك، وتجعلك تعد للألف قبل أن تستصغرنا بعينيك، نحن 'الجماهير الكادحة' كما تقول. أنا من كم يوم خرجت إلى البراري، بقصد أن أتمشّى وأتريّض، فرأيتُ سبعة فتية، هم أبناء جاري في الحارة، يرعون سخلةً، فاستوقفتهم وسألتهم: ماذا تفعلون هنا يا عين عمكم؟ فقال كبيرهم: إننا نرعى السخلة، يا جارنا. قلت مستعجباً: كلكم ترعون سخلة واحدة؟ قال: أي نعم، كلنا. وشرح لي أن كثرة العدد تفيد في تطويق السخلة وإيقاعها في كمين، فيما لو خطر في بالها أن تهرب.
قلت لنفسي: والله شيء جميل، والاحتياط واجب.
وحينما عدت إلى البيت، مساء، سمعت بكاء فجائعياً ينبعث من منزل جاري، فخطر لي أن أطرق الباب، لأرى ما يحصل في داخله. طرقته، وانتظرت، وإذا بجاري يفتح الباب، وقد لف حزام بنطلونه على يده، ووجهه ينقط غضباً. قال لي: تفضّل، وتابع طريقه إلى حيث ينكمش أبناؤه على أنفسهم خائفين، وتابع عملَه في جَلدهم جلداً مبرحاً. وبصعوبةٍ بالغةٍ، استطعت أن أخلصهم من يديه. هَدَّأْتُ روعه، وسألتُه عن سبب هذا الفعل العنيف بحق الفتية الصغار، فقال لي:
- هل تدري ما فعله هؤلاء العكاريت؟ لقد أضاعوا السخلة.
مشاركة

نيسان ـ نشر في 2017-12-17 الساعة 16:09


رأي: خطيب بدلة

الكلمات الأكثر بحثاً