اتصل بنا
 

مخيم اليرموك وأشياء أخرى

مدير مركز ابن رشد للثقافة العربية في استراليا

نيسان ـ نشر في 2017-12-19 الساعة 10:24

نيسان ـ

بعد عشر سنوات من الغربة في أستراليا.. أشعر الآن فقط بالاغتراب وأنا أذكر بيوتا لم تعُد تعجُّ بساكنيها في تلك الجادّات الضيقة المعتمة، في ذلك المخيم للاجئين الفلسطينيين المُسمى اليرموك.

في كل مرة كنت أزوركم فيه، كنت (أثِبُ الهُوَينا) على طرقات المخيم الوعرة، وأختار بعناية أين أضع قدميَّ وعكازي تجنبا لحفرة هنا أو لتجمع مائي- في الشتاء- هناك.. أتكئ تارة على جدار خشن تزينه صورة شهيد أو شعارات الثورة الفلسطينية، أو على (طقطيقة) متهالكة تقف على جانب الطريق، وتارات على ما تيسر من أكتاف أحبتي وأهلي الذين ولدوا جسدا في المخيم وترعرعوا روحا في صفد.. وفي كل مشوار مشيته هناك، وأيّا كانت الوجهة، كنت أستعجل الوصول.. فكل دقيقة أخرى هناك، تعني قصة أو ضحكة أخرى، فلِمَ الاكتفاء بالقليل؟

دير بالك من (الجورة) يا ستي!.. هكذا كانت توصيني ستي أم سمير في كل مرة أذهب من بيتها إلى بيت خالتي مريم، خاصة إذا كان الليل قد حل.. رحمك الله يا ستي، لا زلت أحتفظ بصورتي بـ (روب) التخرج التي أمّـنتِني أن أرسلها لك.. ولكنك رحلت قبل تخرجي بشهرين.

لا أذكر أنني وصلت في حياتي للطابق الخامس على الدرج إلا في زياراتي لخالتي مريم، والغريب أن آخر ثلاثة أو أربعة بيوت زرتها فيها في العشرين عاما الماضية كان أقلها في الطابق الرابع.. بالأمس سمعت أنها تركت بيتها إلى جرمانة في دمشق، لم أتصل بها بعد ولكني متأكد أنني سأسألها إن كانت (غلطت هالمرة) وسكنت عالأرضي، ومتأكد أكثر أنني سأزورها بكل فرح حتى لو كانت تسكن على العاشر.

كأننا وإذ نشتاق لأهلنا، نتذكرهم في الحيز الذي نعرفهم به.. في غرفهم، بألوان ملابسهم، برائحة اللبن المطبوخ لإعداد الشاكرية، بضجة دبكاتهم ورقصاتهم التي لا تحتاج إلى مناسبة، بصور من رحلوا بين أطقم فناجين القهوة التي لا تنزل إلا للضيوف في (الفترينة)، بعناوين أخبار قديمة على قصاصات جرائد تغطي رفوف (نملية) المطبخ.. بصفيحة السمنة التي أصبحت مزهرية.

وطالما وهم ما زالوا يشغلون ذلك الحيز، يبقى الشعور بالاغتراب أقل إيلاما.. ربما لأننا نعرف من أين سنبتاع شيئا من الحلوى في الطريق من المطار إليهم.. ومن أي (دَخلة) ستبدأ نبضات القلب بالتسارع.. أما وقد نزح آخرهم أمس، فلم يعد للحيّز قيمة، ولم يعد للمكان في القلب مكان.. ولن أصحو على صوت بائع المازوت، ولن تكون (سفيحة اللحمة) من عند ملحمة أبو حشيش إفطاري صباح اليوم التالي لوصولي.. وهأنذا أجلس الآن على كرسيي هنا لا أجيد حتى الحنين إليهم..

فهذه هي الغربة، هذه هي الغربة..
إعادة نشر لما كنت قد كتبته بعد أيام من خروج أهالي اليرموك 19 ديسمبر 2012

نيسان ـ نشر في 2017-12-19 الساعة 10:24


رأي: يوسف الريماوي مدير مركز ابن رشد للثقافة العربية في استراليا

الكلمات الأكثر بحثاً