اتصل بنا
 

كنت راعيا بدوام جزئي

كاتب وصحافي اردني

نيسان ـ نشر في 2018-01-27 الساعة 21:39

نيسان ـ

كنتُ راعياً بدوامٍ جزئيٍّ في تِلاع بئرخداد، لم أكنْ مسؤولاً عن رعيتي. فالنعاجُ يتولّاها الكسلُ، والماعزُ لا يفرُّ أبعدَ من شجيراتِ البُطْمِ والزعرورِ والسيسبان، ليقودَ القطيعَ الصغيرَ قَبْلَ الغروب، ويقودني، فلم أكنْ إلا وَلَداً يهشُّ على الشليَّةِ، ويرتابُ من ظلِّ عصاه.
كنتُ في الثامنة. المراعي قريبةٌ من البيت. وهذه لعبةٌ يوميَّةٌ تحينُ بعدَ المدرسة. أملأُ ابريقاً من الماء، وأُهبطُ من الكَرْمِ إلى تلعةِ ماضي. ذَلِكَ اسمٌ من الماضي، لكنَّ الياءَ أصليّةٌ، لا يحذفها تنوينُ الكسر، ولا يجرها سوايَ إلى الذاكرة.
آخذُ نوبةَ الحراسة من جدتي أو من أبي، وآخذُ الوصايا بامتثالٍ كاذب: عُدْ قبل الغروب. لا تختلطْ بالرعاة. لا تسرحْ أكثرَ من الوادي. لا تدع الأغنامَ تتباعد، وإياكَ أنْ تغفو.
أنا راعٍ بدوامٍ جزئي. لستُ مِثْلَ أولئك البدو بشياهٍ كثيرةٍ. ثمةَ ما يجعلُ المهمَّةَ أقلَّ من الطموح، فلا حمارَ بخُرْجٍ وقربةِ ماء وزوّادة. تنقصني هيبةُ الراعي. أريدُ ناياً ودربيلاً وعصىً بلّوطيَّةً ثقيلةً.
ليكتملَ دورُ البطل، كانَ يلزمني نايٌ، يسحبُ الريحَ من قلب القصب. ثمَّ أيُّ راعٍ أنا، دون كبشٍ ومرياعٍ، يدلُّ على نفوذِي، كما يجدرُ بِوَلدٍ، ليسَ كالأولاد، وَلَيْسَ كالذين ينامونَ بعد الظهيرة، وتكونُ لهم عِنْدَ العصرِ فطيرةٌ من الخبزِ والشاي والسُكَّر، تدلقُ عليها الأمهاتُ سمناً وعافية.
أكونُ راعياً بجدارةِ كبشٍ يناطحُ السناسلَ حينَ تعزُّ الكباشُ الجسورةُ، أو أسكبُ الماءَ على شجيرة شِبْرقٍ، ويكونُ الإبريقُ طبلاً من أجل أغنيةٍ غجرية. أسهو عن الرعيّة، وأبحثُ عن جلد أفعى على الصخور، أو عن قنفذٍ، أو سلحفاةٍ تشمُّ عشبتها، قد أعثرُ على ذهبٍ رومانيٍّ فَوْقَ كومةِ ترابٍ، أخرجها الخُلْدُ (الخلندُ) من مسالكَ وعرةٍ في العالم السفليِّ.
كيفَ تَكُونُ راعياً على بضعِ نعاجٍ وحملانٍ وعبائرَ وصخْلاتٍ، وتضعُ عينكَ في عيونِ الرعيان. على الأقلّ، لا بُدَّ من كبشٍ بقرونٍ تردعُ المتنمِّرين، وتيسٍ بلحيةٍ مهيبةٍ، ورائحةٍ يُضربُ بها المَثل. تَكُونُ أو لا تَكُونُ. ولا من خطرٍ أيُّها الوَلدُ، فلا تكترث، وابحثْ عن قطعةِ فخَّارٍ، أو آنيةٍ قديمة من ألمنيومٍ، أو حذاءٍ بلاستيكيٍّ، تبيعهُ للدوّاجين.
تنحدرُ الشمسُ وراءَ التلالِ. هَذِهِ جملةٌ من المألوف، ولا بدَّ منها، لتعرفَ الشَّليةُ ميقاتَ العودةِ إلى البيت، ولعلَّ الثغاءَ كان يناديني للمَراحِ أيضاً، فأُسرعُ إلى العَشاء، وزهو العائدين.
وحينَ كانت جدّتي تضعُ المِحْلابَ تحتَ ضرْعِ الشاةِ، وتشْخَبُ الأبيضَ كنتُ أصغي إلى صوتِ الحليبِ يرنُّ في المعدن، فأمسحُ غروري، ثمّ أنام.
————
* تجاوباً مع الثغاء الوطني العام/ كتابة من 2015

نيسان ـ نشر في 2018-01-27 الساعة 21:39


رأي: باسل الرفايعة كاتب وصحافي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً