لم يطرقوا جدران الجليد
نيسان ـ نشر في 2018-01-30 الساعة 16:22
ذاب الثلج يا فاطمة، أخيرًا، وتكشفت جثثنا. أراهنك أننا نجحنا باجتياز الحدود. لو كنت حيًّا لبرهنت لك أن جثثنا نجحت بالإفلات من حدود الوطن، تمامًا كما وعدتك، أنت وأطفالنا الذين نجوا بموتهم من براثن 'صنم الثلج'، القابع هناك على صدر دمشق، حين قلت لهم إنني سأصنع لهم رجل ثلج حقيقيًا هذه المرة، رجلًا دافئًا يستطيعون اللعب معه، ولم أحنث بوعدي.
لا ترتبكي، يا فاطمة، ودعي الابتسامة تغمر شفتيك، كي يراها 'صنم الثلج'، ويعلم أننا جرّدناه من ثلة ضحايا جدد، لأن الطغاة لا يريدون لضحاياهم أن يموتوا، فموت كل ضحيةٍ جديدةٍ يُنقص من أعمارهم يومًا آخر، بل يريدون للضحية أن تبقى بين الموت والحياة، فلا هي تحيا ولا هي تموت... ولا يخامرنكِ شكٌّ، يا فاطمة، أن طاغيتنا غاضبٌ لخسران نصف شعبه الذي هاجر إلى المنافي، لأنه باختصار خسر نصف عمره الذي كان يود لو أنفقه على لذّة الاستبداد بأكثر من ثمانية ملايين مواطن فرّوا من بين يديه، ولا تخدعنك دعواته الصادقة لهم بالعودة، بعد أن أوشك رصيد ضحاياه على النفاد.
وأنا قرّرت أن أحرم طاغيتي من هذه اللذة، يا فاطمة، حين اقترحت عليك أن نهاجر إلى لبنان. تخيلي 'هجرة إلى لبنان'، التي كانت يومًا جزءًا من سوريتنا الكبرى، صار الوصول إليها يدعى 'هجرة'؟ يومها ضحكتِ طويلًا على هذه المفارقة، وقلت هل يحتاج بلوغ لبنان إلى 'هجرة'، هي مجرّد 'فركة كعب' لا تحتاج أكثر من ساعة، تمامًا كما كنا نفعل سابقًا، حين كنا نقضي سحابة نهار كامل هناك، ونؤوب ليلًا.
من جهتي، افتعلت الابتسامة، يا فاطمة، لأنني كنت أعلم جيدًا، أن اجتياز الحدود العربية أصبح أول المستحيلات في زمننا العربي الراهن.. هل تذكرين 'مجنون غزة' الذي حاول اجتياز الحدود المصرية، قبل عامين، فأردوه قتيلًا، واتهموه بالجنون، فعلًا، كي يبرهنوأ أن كل من يحاول اجتياز الحدود العربية هو بالضرورة 'مجنون'.. أما 'حماة الديار' العرب، فما عادت من مهمة لهم غير حماية الحدود من العرب أنفسهم، فيما تفتح تلك الحدود للغزاة من الشرق والغرب، وتفرد لهم الأوطان للهجوع والنوم، والمضاجعة إن شاؤوا.
أما 'الثلج' الذي فتك بنا، فتلك حكاية أخرى، يا فاطمة، تشبه حكاية غسان كنفاني وخزّانه، فقد كنت أعلم جيدًا أننا سنموت على الحدود، بالثلج أو بغيره، استنادًا إلى مقولة شاعرنا ابن نباتة السعدي 'ومن لم يمت بالسيف مات بغيره..'، مع فارق وحيد أن الموت هنا هو على الحدود التي غدت مقبرتنا الكبرى.
لنقل، إذن، يا فاطمة، أننا 'غسّانيون' جدد، ماتوا من دون أن يطرقوا جدران الجليد، على غرار ما فعله 'رجال الخزّان'، أنفسهم، لم نطرقه بإرادتنا؛ لأننا نعلم أن العصر الجليدي عاد ليكسو الخريطة العربية الكبرى بأوطانها وحدودها وطغاتها وشعوبها. وفي هذه الحالة، لن يسمع طرقنا أحد، وإن سمع فلن يعير الأمر اهتمامًا، بعد أن غدا الموت العنيف شأنًا يوميًا في حياة الإنسان العربي 'المسالم'، و'من لم يمت بالثلج.. مات بالخزّان'، ثم إننا اخترنا أن لا نطرق جدران الجليد، لأن الموت بات خيارنا الوحيد للظفر بالحرية.. يا للمفارقة.
على أنني، واعذريني، يا فاطمة، إذ أعترف الآن بهذا، كنت أعلم جيدًا أي مصير ينتظرنا، حين تساءلتِ أنتِ لماذا لم نصطحب معنا أوراقنا الثبوتية وجوازات سفرنا، فقد قلتُ لك دعيها، لأنني أعلم أن 'شهادة الموت' هي جوازنا الوحيد المؤهل لاجتياز الحدود العربية، بدليل أن جثثنا لم يتم إيقافها طويلاً على الحدود، بل أدخلت على عجلٍ إلى بلد الهجرة، ولم يطلب منا أحد أي هوية، بعد أن غدا الموت 'هويتنا الواضحة'، القابلة للاحتفال الحدودي، والتضامن العروبي.
خلاصة الكلام، يا فاطمة، ذاب ثلجنا نحن، وتكشفت حريتنا الممهورة بجثثنا، أما ثلوجهم هم التي لم تذب بعد، فتحتها جثثٌ مهولةٌ لأحياء ينفر منهم الأموات. وقد وعدتك وبررت بوعدي، وبلغت بجثثنا، بر الأمان، ولا يغرّنك أولئك 'الأحياء' من شعوب القطب المتجمد العربي، فلعمري، أننا، بجثثنا التي طاردت الحرية حتى أقاصي الموت، أشد حياة منهم.
نيسان ـ نشر في 2018-01-30 الساعة 16:22
رأي: باسل طلوزي