اتصل بنا
 

جناية القط الأبيض

كاتب اردني مغترب

نيسان ـ نشر في 2018-02-04 الساعة 13:02

نيسان ـ هل صحيحٌ أن أبا عثمان، عمرو بن بحر، أو الجاحظ كما شهرُته، سقطت عليه، قبل أزيد من ألفٍ ومئتي عام، عشرات الكتب، فمات؟ أم أن هذه حكايةٌ اختلقها أحدُهم ثم استطاب الرواةُ تناقلها وتصديقها؟ .. من المهم اعتبار الواقعة صحيحةً، حتى لو أنها ليست كذلك، لأنها ستصير، منذ اثني عشر قرنا، ضروريةٌ لاستدعاء الإيحاء بالنّحْس فيها من اسم الجاحظ نفسه. ومع التسليم بأن الحديث عن النّحْس يقع في منطقةٍ خارج العقل والمنطق، فإنه سيكون تخريفيا السؤالُ عمّا إذا كان الحريق الذي جرى، الثلاثاء الماضي، في مكتبة 'خزانة الجاحظ' في عمّان، على صلةٍ بأن المكتبة العتيدة تحمل اسم صاحب 'البيان والتبيين'. ولكن سيرة هذه المكتبة، منذ أسّس نواتَها ابن مدينة الكرك في الأردن، سليمان المعايطة، في الزمن العثماني، وصولا إلى هذا الحريق الذي تسبّب به قط أبيض، تشتمل على عدة وقائع 'نحْس'. والأحفاد الذين ورثوا المكتبة، وحافظوا على استمرارها، بدأبٍ يبعث على الإعجاب بهم، والثناء عليهم، ينقلون عن جدّهم ووالدهم أن المقدسيين كانوا يمازحونهما بالتحذير من سوءٍ يلحق بالمكتبة وبهما، طالما أنها تأنسُ بالجاحظ اسما لها.
كان التأسيس الثاني للمكتبة في عام 1922 على يد خليل سليمان المعايطة، الذي استقر في القدس، ثم استشهد في 1947 في قتالٍ مع عصاباتٍ صهيونيةٍ أحرقت المكتبة، فتبقت منها مخطوطاتٌ قليلةٌ في منزله، ثم بادر إلى إعادة المكتبة وإحيائها نجله ممدوح الذي كان جنديا في الجيش العربي (الأردني)، وبُترت إحدى قدميه بعد إصابته في حرب 1948. وفي بيروت، تطوّرت لديه معرفته بعمل 'الورّاقين' والناشرين، فعمل على أن تضم المكتبة، في مقرّها في القدس، مزيدا من المخطوطات والوثائق والكتب القديمة والتراثية. وبعد احتلال 1967، انتقلت المكتبة إلى عمّان، فنشط الرجل في صنعته، وفي دور ثقافيٍّ مهم، لجهة إعارة كتبٍ للقراء، مقابل مبالغ زهيدةٍ جدا، بالإضافة إلى تأمين كتبٍ نادرةٍ ومخطوطاتٍ للباحثين وطلاب الماجستير والدكتوراه، مع بيع الكتب المستعملة أيضا. وصارت المكتبة معلما في العاصمة الأردنية، وصار لها فروعٌ فيها، وفي مدنٍ أخرى. غير أنها احترقت، مرة جديدة، بسقوط قذيفةٍ عليها إبّان أحداث أيلول 1970. وبعد وفاته في 1994، ورث أبناؤه المهنة، وحرصوا على صون 'خزانة الجاحظ'، فأضافوا إليها ذخائر ثمينةً من الكتب، في الأدب والفلك والتاريخ والعقيدة، يعود بعضها إلى القرن الثالث عشر، عدا عن كتبٍ جديدة.
لم يكن هشام ممدوح المعايطة يعرف أنه عندما عطفَ على قط أبيض، صادفه قرب مستودع المكتبة، وأراد حمايته من البرد، فأدخله المكتبة، وفيها مدفأة كازٍ، لم يكن يعرف أن نحْسا شنيعا مستجدّا سيحدث في خمس دقائق خرج فيها من المكتبة، لجلب طعامٍ للقط الأبيض. عاد ليرى لون القط صار أسود، وليُصابَ بحسرةٍ أمام نيرانٍ تأكل الكتب، ثم لم تنقذ مطافئ الدفاع المدني عشرة آلاف كتابٍ دُمّرت، بينها ثلاثة آلاف مصحف. كانت كارثةً، عقّب عليها الرجل بأن لله ما أعطى وأخذ، وبأنه القضاء والقدر، وليس فعلةً غير معلومةٍ اقترفها القط الأبيض أودت بكتبٍ أنفق، وقبله والده وجده، سنين في جمعها. ولكن، تنادى أردنيون ناشطون من أجل ترميم 'خزانة الجاحظ'، وتوثيق سيرتها، وتزويدها بالكتب، كما قدّم الملك عبدالله الثاني عونا ماليا لها.
تُرى، هل كان القط الأبيض يرغب في تصفّح كتاب 'كليلة ودمنة' (طبعة جلال أباد عام 1863)، فوثب إلى الرفّ العلوي، ثم لم تُسعفه قائمتاه الخلفيتان في أن يتماسك، فمال الرفّ، وانهارت الكتب فوق المدفأة، فشبّت فيها النيران؟ تخيّل الصديق، القاص نبيل عبد الكريم، هذا. ولكن، سأشاكس نبيل، وأسأل: لم لا يكون القط الأبيض أراد، في الدقائق الخمس، أن ينتشل واحدا من المجلدات السبعة لكتاب 'الحيوان' (طبعة القاهرة، 1938)، عساه يقع لدى عمرو بن بحر، الشهير بالجاحظ، عن شيء عن القطط من جنسه، ثم لم تُسعفه قائمتاه الخلفيتان، فكان النّحْس، وصار ما صار؟ مشاركة

نيسان ـ نشر في 2018-02-04 الساعة 13:02


رأي: معن البياري كاتب اردني مغترب

الكلمات الأكثر بحثاً