اتصل بنا
 

تصنيف الجامعات.. بين سوء الفهم وحقيقة التحوّل

وزير أردني سابق، باحث ومتخصص في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في العالم العربي. من كتبه "السلفيون والربيع العربي"و" الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"و "الحل الإسلامي في الأردن" و"الإسلاميون والدين والثورة في سورية".

نيسان ـ نشر في 2025-07-14 الساعة 10:27

نيسان ـ أثارت تصريحات وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، عزمي محافظة، حول تصنيف الجامعات الأردنية، جدلاً واسعاً، لم يكن كله علمياً أو هادئاً، بل انزلق البعض إلى الشخصنة وسوء الفهم، في الوقت الذي استند فيه الوزير إلى ملاحظة واقعية استخدم فيها تعبير «جامعات»، لا للتعميم، بل لوصف ظاهرة موجودة، وتستحق الوقوف عندها بمسؤولية لا بمبالغات، ومن المعروف عن د. عزمي جرأته وصراحته ودقته، بما لا ينسجم مع كثير من الاستنتاجات والتأويلات التي أخرجت تصريحاته بصورة كاملة عن سياقها!
هذا الجدل فتح الباب لطرح تساؤلات أعمق وأكثر أهمية حول حال التعليم العالي في الأردن، وهو أمر جيد في ذاته إن أخذ بوعي، لأنّه لا يخفى على أحد أنّ التعليم العالي لدينا ليس في أفضل أحواله، وأنّه شهد تراجعاً ملحوظاً خلال العقود الماضية مقارنة بالبدايات الطموحة التي رافقت تأسيس الجامعات الوطنية. مررنا بمراحل صعبة، سواء على مستوى البنية الأكاديمية أو مخرجات التعليم أو حتى ظواهر مقلقة كالعنف الجامعي، ناهيك عن ضعف البحث العلمي، خصوصاً في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية.
في المقابل من غير المنصف تجاهل التحولات الإيجابية التي تشهدها العديد من الجامعات الأردنية اليوم، سواء في تطوير البنية التحتية، أو تجديد أدوات وأساليب التدريس، أو التوسع في الابتعاث الأكاديمي، أو حتى في إعادة الاعتبار لمفاهيم الجودة والاعتمادات الدولية، التي لم تكن من صميم التفكير الجامعي في المراحل السابقة. هنالك يقظة حقيقية في بعض الجامعات، واستفاقة لضرورة الانخراط في معايير الجودة العالمية، بل وتحقيق بعض الإنجازات اللافتة التي يجب أن تُذكر وتُكرّم لا أن تُطمس في خضم الجدل.
ولعلّ إحدى أهم هذه النقاط تتمثل في موضوع تصنيف الجامعات، الذي يبدو أنّه لا يزال غير مفهوم بدقة - لدى كثيرين ممن تناولوا تصريحات الوزير- وكأنّه موضوع هامشي أو اختياري أو لا صلة له بجوهر العملية التعليمية. والحقيقة غير ذلك تماماً.
فالتصنيفات العالمية، مثل QS وTimes Higher Education، أصبحت اليوم بمثابة «بطاقة الهوية» للجامعات، تحدد سمعتها، وجاذبيتها للطلاب المحليين والدوليين، وتنعكس بشكل مباشر على خريجيها في سوق العمل. الجامعات الغربية والعربية أيضاً باتت تولي هذه التصنيفات اهتماماً بالغاً، لأنها تدرك أن موقعها في هذه القوائم هو أحد أهم مقاييس النجاح في عصر تنافسي مفتوح لا يرحم.
تجاوز الجامعة الأردنية لعدد كبير من الجامعات العالمية مؤخراً ليس مجرد «رقم» في قائمة، بل هو حصيلة جهد وتراكم طويل في تطوير المخرجات، وتحسين جودة التعليم، والارتباط بسوق العمل، والدخول في شراكات علمية ومجتمعية حقيقية. من يرى أن التصنيف مجرد ترف أو مظهر خارجي، يغفل أن معاييره تشمل الاقتباسات العلمية، ونسب التوظيف، والبحث العلمي، والتنوع الطلابي، والانخراط المجتمعي، والسمعة الأكاديمية – وهي جميعها مؤشرات نوعية جوهرية.
صحيح أنّ بعض المؤشرات في التصنيفات بحاجة إلى مراجعة علمية، وبأنّ هنالك «اقتصاداً» كاملاً يقوم اليوم على هذه التصنيفات من قبل بعض الشركات العالمية، لكن هذا لا ينفي أهمية أن نخضع لها، ونحاول فهمها، وأن نطوّر أداءنا بناءً عليها، لا أن ننكر وجودها أو نقلل من أثرها. بل إنّ النقد الحقيقي يجب أن يأتي من داخل الحقل الأكاديمي نفسه، من المتخصصين والخبراء، لا من ردود فعل انفعالية أو غير دقيقة.
ما هو مشجّع اليوم أنّ بعض الجامعات، بخاصة الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا، بدأت فعلًا تتحرّك في الاتجاه الصحيح: برامج للإعداد الوظيفي، تطوير في البنية الرقمية، قاعات تدريس حديثة، تقليص ظواهر العنف، شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتشبيك فعّال مع سوق العمل، تقدم مدهش في التصنيف الدولي للجامعات، ابتعاث أعداد كبيرة من طلاب الدراسات العليا للدراسة في أفضل الجامعات العالمية، والدخول بقوة إلى مجال الاعتمادات الدولية لتخصصات الجامعة،بما يجعلها مركزاً إقليمياً للتعليم العالي في المنطقة، فهذه المؤشرات يجب أن تُدعم وتُعزّز، لأنّها تشكّل الملامح الأولى لمسار تصحيحي طال انتظاره.
في النهاية، لا أحد يعترض على أن يكون هناك نقد لمسيرة التعليم العالي، بل هو ضروري، لكن النقد الحقيقي لا يجب أن يكون إنكاراً للإنجازات، أو تقليلاً من الجهود، بل تفعيلاً للعقلية النقدية من داخل المنظومة نفسها، ومراكمة على ما تحقق، لتستعيد الجامعات الأردنية مكانتها التي تستحقها – لا فقط في الذاكرة، بل على أرض الواقع.

نيسان ـ نشر في 2025-07-14 الساعة 10:27


رأي: د. محمد أبو رمان وزير أردني سابق، باحث ومتخصص في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في العالم العربي. من كتبه "السلفيون والربيع العربي"و" الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"و "الحل الإسلامي في الأردن" و"الإسلاميون والدين والثورة في سورية".

الكلمات الأكثر بحثاً