ترقيع الخبز
نيسان ـ الدستور ـ نشر في 2025-09-02 الساعة 10:09
نيسان ـ يوسف أبو لوز
رسم ناجي العلي أكثر من 40 ألف كاريكاتور غير تلك التي منعتها الرقابة وبقيت في أدراجه التي لا يعلم عنها أحد سوى حنظلة الذي توقف نموّه وهو في العاشرة من عمره، وكانت رسوماته كلّها بالأبيض والأسود من ذلك الفحم الفلسطيني المستخرج من عظام الشهداء في كل مكان يشبه عين الحلوة أو صبرا أو شاتيلا.
..رسم أولاً على جدران السجن، بعدما اكتشف أن مكانه المعنوي ليس في كراج سيارات حيث عمل فترة من حياته «ميكانيكي»، ثم معلم مدرسة، ثم رسام الجريدة التي جعل قارئها يبدأ بها من الصفحة الأخيرة حيث رسمته اليومية، حتى ظهيرة يوم 29 أغسطس/آب 1987 حين تقدم إليه في أحد شوارع لندن شاب عربي مرتزق مجهول التمويل حتى اليوم، وأطلق على وجهه النار، وبعد ذلك، القبر رقم 230191 في مقبرة بروك وود في لندن.
حياة قصيرة، لرسام بدأ صباه في قطاف الحمضيات وأشجار الزيتون جنوب صيدا، واخترع له قريناً أو ابناً سمّاه حنظلة الذي لا نعرف إلى اليوم قسمات وجهه، لأنه كان يدير ظهره للعالم كلّه بما يليق بطفل ساخر أشعث الشعر، مرقّع البنطلون، وقليل الجسد مثل رصاصة.
نزح إلى لبنان بعد النكسة أو النكبة بحسب ما تريد من توصيف انهزامي، واختزل حياته كلها في رسم الكاريكاتور، الفن السلمي الأخلاقي الذي اكتشفه غسان كنفاني عند ابن مخيم كان يعيش مع أبيه وأمّه وأخوته في غرفة واحدة، بعدما صارت الخيمة بيتاً من الطوب وبقايا الزنك.
ما لم يرسمه ناجي العلي بعدما اغتيل وهو في الأربعين من عمره كثير في حجم الشيب الذي كان يغطي رأسه.
لم يرسم ابن عين الحلوة هذا الحصان الهزيل الذي يجر عربة كارو تكدّست عليها فرشات إسفنج ووسادات من القطن المشبّع بالدمع، وفي المشهد التلفزيوني الفلسطيني يبدو الحصان كائناً خفيفاً نشطاً وهو يحمل أغراض العائلة ويهاجر إلى مكان ليس مجهولاً على الخريطة الغزيّة الرمادية.
لم يرسم الولد الفلسطيني الحلو، شعره أشقر و«كيرلي»، ولم يرسم الصحون الطائرة التي تلتقط شوربة العدس بمهارة فنية وحرفية أكثر إبداعاً من التقاط الصحون الفضائية لأجساد الشهداء الهادئة تحت الردم الذي يتحول إلى رسم تجريدي هو الآخر بالأبيض والأسود.
لم يرسم ناجي العلي أيقونته حنظلة وهو يحمل طنجرة توتياء، ويدافع عن حقه في البطاطا والعدس، كأي جائع حقوقي أممي.
لم يرسم «الزنانة»، وهي نوع من الحشرات الإسرائيلية الطيّارة تظهر في سماء غزة في الليل والنهار، أو عند الحاجة الفورية للقتل الفوري قبل أن يولد حنظلة جديد.
لم يرسم ناجي العلي لا خط الجوع، ولا الخط المعادل الموضوعي له: خط الشبع، لذلك الضبع السمين الذي يتشمم رائحة الموت تحت الأنقاض.
مات ناجي في ظهيرة إنجليزية، وبترتيب اغتيالي مزدوج. ثنائية لئيمة بين قاتل عربي مأجور ومسدس صناعة إسرائيلية، وأبقى وراءه سردية كاريكاتورية لم تنته أبداً، وحنظلة منهمك في ترقيع ثيابه.. وخبزه.. والبقية تأتي..
هل رأيت في حياتك إنساناً يُرقّع خبزه بالدموع؟..
رسم ناجي العلي أكثر من 40 ألف كاريكاتور غير تلك التي منعتها الرقابة وبقيت في أدراجه التي لا يعلم عنها أحد سوى حنظلة الذي توقف نموّه وهو في العاشرة من عمره، وكانت رسوماته كلّها بالأبيض والأسود من ذلك الفحم الفلسطيني المستخرج من عظام الشهداء في كل مكان يشبه عين الحلوة أو صبرا أو شاتيلا.
..رسم أولاً على جدران السجن، بعدما اكتشف أن مكانه المعنوي ليس في كراج سيارات حيث عمل فترة من حياته «ميكانيكي»، ثم معلم مدرسة، ثم رسام الجريدة التي جعل قارئها يبدأ بها من الصفحة الأخيرة حيث رسمته اليومية، حتى ظهيرة يوم 29 أغسطس/آب 1987 حين تقدم إليه في أحد شوارع لندن شاب عربي مرتزق مجهول التمويل حتى اليوم، وأطلق على وجهه النار، وبعد ذلك، القبر رقم 230191 في مقبرة بروك وود في لندن.
حياة قصيرة، لرسام بدأ صباه في قطاف الحمضيات وأشجار الزيتون جنوب صيدا، واخترع له قريناً أو ابناً سمّاه حنظلة الذي لا نعرف إلى اليوم قسمات وجهه، لأنه كان يدير ظهره للعالم كلّه بما يليق بطفل ساخر أشعث الشعر، مرقّع البنطلون، وقليل الجسد مثل رصاصة.
نزح إلى لبنان بعد النكسة أو النكبة بحسب ما تريد من توصيف انهزامي، واختزل حياته كلها في رسم الكاريكاتور، الفن السلمي الأخلاقي الذي اكتشفه غسان كنفاني عند ابن مخيم كان يعيش مع أبيه وأمّه وأخوته في غرفة واحدة، بعدما صارت الخيمة بيتاً من الطوب وبقايا الزنك.
ما لم يرسمه ناجي العلي بعدما اغتيل وهو في الأربعين من عمره كثير في حجم الشيب الذي كان يغطي رأسه.
لم يرسم ابن عين الحلوة هذا الحصان الهزيل الذي يجر عربة كارو تكدّست عليها فرشات إسفنج ووسادات من القطن المشبّع بالدمع، وفي المشهد التلفزيوني الفلسطيني يبدو الحصان كائناً خفيفاً نشطاً وهو يحمل أغراض العائلة ويهاجر إلى مكان ليس مجهولاً على الخريطة الغزيّة الرمادية.
لم يرسم الولد الفلسطيني الحلو، شعره أشقر و«كيرلي»، ولم يرسم الصحون الطائرة التي تلتقط شوربة العدس بمهارة فنية وحرفية أكثر إبداعاً من التقاط الصحون الفضائية لأجساد الشهداء الهادئة تحت الردم الذي يتحول إلى رسم تجريدي هو الآخر بالأبيض والأسود.
لم يرسم ناجي العلي أيقونته حنظلة وهو يحمل طنجرة توتياء، ويدافع عن حقه في البطاطا والعدس، كأي جائع حقوقي أممي.
لم يرسم «الزنانة»، وهي نوع من الحشرات الإسرائيلية الطيّارة تظهر في سماء غزة في الليل والنهار، أو عند الحاجة الفورية للقتل الفوري قبل أن يولد حنظلة جديد.
لم يرسم ناجي العلي لا خط الجوع، ولا الخط المعادل الموضوعي له: خط الشبع، لذلك الضبع السمين الذي يتشمم رائحة الموت تحت الأنقاض.
مات ناجي في ظهيرة إنجليزية، وبترتيب اغتيالي مزدوج. ثنائية لئيمة بين قاتل عربي مأجور ومسدس صناعة إسرائيلية، وأبقى وراءه سردية كاريكاتورية لم تنته أبداً، وحنظلة منهمك في ترقيع ثيابه.. وخبزه.. والبقية تأتي..
هل رأيت في حياتك إنساناً يُرقّع خبزه بالدموع؟..


