اتصل بنا
 

العالم بلا زوايا

رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

نيسان ـ نشر في 2025-10-27 الساعة 10:42

نيسان ـ فرق واسع بين معنى الشفافية في التداول العام ومعناها الفيزيائي الدقيق. ففي العلم لا تكون الشفافية إلا حين يمر الضوء كله عبر الجسم دون أن يعكس شيئا. أما في الحياة، فغالبا ما يراد بها أن تُرى دواخلك، أن تُعرّى أسرارك ومكنوناتك، وأن تُقرأ نياتك وأفكارك كما تُقرأ صفحة مفتوحة.
أي أن الشفافية الحديثة، في معناها الصادم والمخترق للخصوصية، تجعل الإنسان كائنا زجاجيا يعيش في بيت لا يخفي شيئا. عيون تلاحقك، وعدسات ترصدك، وعالم مجنون يركلك برغبة في معرفة كل شيء عنك، حتى نوع دمك ونبض أفكارك ولب اسرارك. فاحذر «الأخ الأكبر»، ذاك الذي صار أقرب إليك من ظلّك، وأقوى من حذرك وتحصينك.
قبل قرون قليلة، احتاج خبر سقوط آخر القلاع العربية في الأندلس إلى أشهر ليصل إلى بلاد الشام، فيما استغرق نبأ وفاة نابليون بونابرت، في مطالع القرن التاسع عشر، أكثر من أسبوع ليعم أرجاء فرنسا قبل أن يعبر حدودها. أما اليوم، فلا فاصل بين ولادة الخبر وانتشاره. نحن نعيش زمن صفر المسافة، زمنا تلاشت فيه الجغرافيا وتوارت التضاريس، وأمست الكرة الأرضية قرية صغيرة يطوفها الضوء سبع مرات في الثانية الواحدة. بل أصغر من هذا، إنها في الحقيقة بحجم هاتف نقال.
ولطالما كان الخيال سابقا على العلم، يفتح له الأبواب ويشعل جذوته ويطلق له العنان. لذا قال آينشتاين إن الخيال أهم من المعرفة، لأنه يولّدها ويمدها بالطاقة والرؤية. ألم يكن «بساط الريح» سوى نبوءة طائرة خرجت من رحم الخيال لتتحول إلى مطارات وطائرات؟ وربما يأتي يوم ننتقل فيه عبر الزمن كما ننتقل بين البلدان. من يدري؟ فقد تكون المسافة بين الحلم والاختراع أقصر من طرف خيال.
المهم أنه وذات صفاء سأل زعيم جلساءه: من أسعد الناس؟ فجاءت الإجابات مغموسة بالمديح والنفاق، حتى ابتسم لهم بخبث وقال متنهّدا: أسعد الناس رجلٌ لا يعرفنا... ولا نعرفه.
ولعل إنسان القرن الحادي والعشرين، هذا الكائن المحاصر بالأضواء والعيون الرقيبة المحاصر من الجهات الست، سيحن إلى زمن لم يعرف فيه الثورة الرقمية، ولم يصبح كائنا مكشوفا يقيم على بعد كبسة زر من كل طالب له. ففي زمن الشفافية المطلقة، لا مكان للاختباء.
وكما قالت الطفلة ميلان مورو في العبارة المنقوشة على مدخل الأمم المتحدة في نيويورك:
«لو كانت الأرض مربعة، لوجدنا زاوية للاختباء. لكنها كروية، وعلينا أن نواجه العالم».

نيسان ـ نشر في 2025-10-27 الساعة 10:42


رأي: رمزي الغزوي رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

الكلمات الأكثر بحثاً