حين يغيب المغنّون !
ماجد شاهين
أديب أردني
نيسان ـ نشر في 2018-03-22 الساعة 15:54
في شارع ٍ يتـّسع ُ كلما ضاق َ ، ركن َ ماسح ُ أحذية صندوقه الخشبي ّ و لوازمه و كرسيّه الصغير إلى طرف رصيف ، و راح يتأمّل لوحة ً كان رسمها متسكّع ٌ و علّقها إلى جدار مهتريء قريبا ً من باب المقهى الوحيد في الشارع .
ماسح الأحذية اكتفى بالألوان في اللوحة مثلما يكتفي هو بلون ٍ واحد يمسح به الأحذية ،
و بائع ' غزل البنات ' كان يلتهم ' ساندويشته ' و يكرع معها شايه ويؤشـّر إلى ' نادل المقهى ' أن يأتيه بكأس ٍ كبيرة أخرى من الشاي ،
والنادل منشغل ٌ بشاعر ٍ يقول كلاما ُ غامضا ً ، بينما المستمعون الحاضرون توقفوا عن لعبتي النرد والورق وأصاخوا السمع إلى ' الشعر المتلعثم ' في فم الشاعر ، و بائع الجوارب الجائل يقطع على الصامتين صمتهم ويوقف الشاعر عن الكلام حين ينادي في الناس أن : ' خمسة أزواج جوارب بدينار ' ، فيفاوضه أحدهم ويشتريها بنصف دينار ، فيجلس بائع الجوارب بعد ذلك و يطلب شايا ً و يتأمّل في الحاضرين الذين يسمعون الشعر .. بعد قليل ينهض ويتجه إلى ' اللوحة ' و لا يعجبه اللون الرمادي ّ فيها !
الرسام غادر المكان ، ولم يعرف أن بائعا ً جائلا ً استاء من لونه الرماديّ ،
و ماسح الأحذية اكتفى بحذاء عتيق ، مسحه و لم يأخذ أجره ، كأنما أشفق على حال صاحبه ،
أمّـا بائع ' شعر البنات ' و غزلها ، فحاول أن يوزّع ' الحلوى ' بلا ثمن وبالمجّان ، فلم يجد أحدا ً يستطيبها ،
غادروا جميعا ً ،
إلا ّ النادل ظلّ إلى جوار ركوة البن ّ ، لكيلا تندلق ،
وأنا كنت انتظر قهوتي من يد النادل !
سمعته يتمتم ، كأنما كان يسب ّ أو يلعن أو يهجو .
الشارع يمور و يفيض بالناس ،
لكن ّ الشاعر رحل َ والرسام رحل وماسح الأحذية رحل و بائع ' غزل البنات ' رحل ،
هل ينفع شارع من دون شاعره ورسّامه و ماسح أحذية العابرين والجالسين و من دون بائع الترمس وشعر البنات ولاعبو النرد والورق والضاحكون الذين يصعدون بضحكهم إلى ما يقترب من الجلجلة ؟
..
في الشوارع الآن : صخب كثير ٌ و بيع ٌ .. لكن ّ الضحك يغيب ُ و التأمّل يغيب و البهجة تغيب !
في الشوارع الآن غموض كبير و فوضى ، لكن ّ الأصابع الواضحة تغيب .
..
في الشوارع الآن ، يكثر الصارخون ، ويقل ّ المغنـّون !