اتصل بنا
 

في وداع لندن

كاتبة وصحافية مقيمة في لندن

نيسان ـ نشر في 2018-10-12 الساعة 18:23

نيسان ـ هنا في لندن أودع حياتي وأراها تذوي أمامي. شيئًا فشيئًا بدأت الأشياء بالتلاشي. قريبًا سأترك هذا البيت. سأودع أصدقائي على مهل وسأرحل عن قريب في غضون شهرين، تؤرقني إجراءات الرحيل وموسم الهجرة إلى الوطن وكلي أمل بأن أعود واكمل ما تبقى لي من عمر فيه.
لكن شكوكًا بدأت تراودني حينما أجمع أصدقائي وتراهنوا على عودتي إلى لندن مجددًا، كما حصل مع بعضهم. أنا لا أخفي أني أحرق الأخضر واليابس لكي لا أعود، لأنه بتصوري حياة العائلة والدفء الشرقي سيعوضانني عن لندن. بطبيعة الحال، بدأت أفتقد لندن وهل لندن تنسى؟ إن هذا الإنتقال من لندن إلى عمان لهو موجع. أمشي في شوارع لندن وأركب قطاراتها تحت الأنفاق وفوقها. أسمع موسيقى وأغاني الفنانين المهمشين. استمتع بمتنزهاتها وأحظى بعروض سفرٍ رخيصة أتاحت لي جوب بلادٍ في هذا العالم. لا مزيد من كل هذا ولا مزيد من الإسترخاء للتفكر في أمور الدنيا بطريقة تخص هذا المكان. لقد أخذني وقت طويل لاتخاذ القرار منذ عام 2006 ولغاية الآن. وجاء حظي مع brexit الذي صاحبه هبوط في أسعار العقار وتداعي في العملة البريطانية. لهذا كان من الأفضل أن يأتي رحيلي عن لندن في وقتٍ مبكر ولهذه الأسباب. لكنه جاء في أسوأ الأوقات وفي أحلك الظروف.
أنا أتفهم لماذا يراهن أصدقائي على عودتي إلى لندن وأنا لم أخرج منها بعد. فأول ما يتبادر إلى ذهنهم العقلية واختلافها ما بين بلداننا ولندن. وثانيًا النظام الموجود بمعنى the system فبريطانيا فيها قانون ونظام ونحن ليس عندنا ذلك. ورابعًا القذارة الموجودة في كل مكان مع أننا أمة تؤمن بأن النظافة من الإيمان. وخامسًا تعاملات الناس فيما بينهم. كل هذا يعني أني بحاجة لإعادة تأقلم.
انا متوجسة قليلاً من رحيلي إلى عمان إذ أني لا أعرف كيف ستتشكل حياتي فيها وهل سأجد مبتغاي. في الحقيقة، أنا عائدة لأني أخترت شكل موتي بين أناسي وأحبائي بعد أن سمعت عن الجثث التي تتعفن داخل الشقق بعد أن يموت أصحابها وحيدين في هذا العالم، وبعد أن فكرت في أين أريد أن أدفن على هذه الأرض. فبرأيي المتواضع ليس المهم فقط كيف يحيا الإنسان بل أيضًا كيف يموت، فإذا كانت بريطانيا تهيئة واستعداد لكي أؤمن حياتي، فإني أتمنى أن يكون الأردن كذلك أيضًا بقدر ما سيكون تهيئة واستعداد لموتٍ طبيعي في بيئة طبيعية. وأكون بذلك قد هربت من حقيقة مرة وبشعة ألا وهي الوحدة القاتلة والكآبة التي أعيشها مع كثيرين في بريطانيا والتي لا بد أن نحاربها يومًا بيوم. وذات يوم علمت بالصدفة أن جاري مات وحيدًا ومن قبله جارتي. هذه كلها جعلتني أفكر بالموت، هذا عدا عن أن الوحدة فيها شيء من الموت. ألهذا قالوا أن الوحدة عبادة؟ ووحدتي التي أقصدها هنا هي
كوني بدون عائلة في لندن. وحين ترحل أمي، التي هي أكبر سبب لرجوعي إلى الأردن، سأصبح وحيدة إلى الأبد.

نيسان ـ نشر في 2018-10-12 الساعة 18:23


رأي: سندس القيسي كاتبة وصحافية مقيمة في لندن

الكلمات الأكثر بحثاً