اتصل بنا
 

كيف يُحترم الإنسان في مجتمع بلا إنسانية؟

كاتب أردني

نيسان ـ نشر في 2018-11-27 الساعة 20:15

نيسان ـ لا توجد كلمة عربية مُوَحَّدَة متفق عليها تترجم كلمة "empathy" الإنكليزية، وهي كلمة لها ثقل في العلوم الإنسانية وفي الأدب وفي الفلسفة، إذ هي تعني أن يضع الشخص نفسه في مكان شخص آخر، يشعر بما يشعر به هذا الآخر ويفكر كما لو كان هو من يتعرض إلى ما يتعرض إليه.ولهذه العملية نتائج هامة في حياة المجتمعات. فبفضلها تتغير سياسات وتتبدل قوانين كانت يوماً ظالمة مجحفة لطرف ما في المجتمع، ضاغطة ليه، بحكم أن السلطة ليست في يده أو لأنه أقلية.
ولكن الشعور بالآخر – وهذه في رأيي أفضل ترجمة لكلمة "empathy"–لا يصح أن يكون الدافع الأساسي لإجراء التغييرات الواجبة في المجتمع ولا يصح أن يكون هو السبب الأول الذي يدفع هذه الحكومة أو تلك أو هذا البرلمان أو ذاك إلى تغيير أوضاع ظالمة. فالظلم يُعرَف في الأساس ويُنبذ عبر عنصرين، أولهما المنطق،وإعمال العقل شرط لنجاح هذا العنصر، وثانيهما الأخلاق، وما أكثر ما عُرِّفَت الأخلاق على نحو مضاد لما هي تعنيه ولما عمل الفلاسفة قروناً طِوَالاًعلى بلورته في إطار إنساني يناسب كل المجتمعات البشرية دون استثناء.
منذ بضع سنين، كنت في زيارة إلى إحدى عواصم الشرق الأوسط. وفي المطار ركبت سيارة أجرىلتوصلني إلى فندق إقامتي. وكان ذلك في رمضان. كان الطريق مزدحماً. وما لَبِثَ أن تبين لي أن السائق صائمغير مُتَحَّلٍ بروح الصيام، مكتفياً منه بالجوع والعطش.
وفي إحدى إشارات المرور صار السائق يسب أكثر مما كان يسب طوال الطريق. ثم فهمت ما يحدث، عندما عَبَّرَ لي عما بداخله وأدى به إلى هذا السباب الذي زاد على ما عَوّدَني عليه سيادته حتى هذه اللحظة. فسيادته رأى فتاة جالسة في أحد المطاعم تأكل وتشرب؛ واستفز ذلك معدته فأطلق للسانه العنان. فذَكَّرتُه أن للفتاة ربما ما يجيز لها الإفطار، كما أنها حرة فصيامها أو إفطارها اختيار خاص لا علاقة لنا به. فزاد هياج سيادته وأجابني: "بل هي فاجرة ماجنة، وأنا على يقين من أنها ستدفع ثمن ما تأكل بممارسات ما مع صاحب المطعم".
سكتت بعد ذلك طوال الطريق، لا لأن هول ما سمعت جعلني غير قادر على الرد بل لأنني كنت قد سمعت من غير هذا الرجل الكثير مما شابه، في بلدان أخرى في الشرق الأوسط ومن بعض أبنائها في أوروبا. فلقد كان ذلك كافياً ألا أكثر مع سيادته من الحديث، إذ أدركت عند سماع كلماته تلك أنه لا أمل في أي نقاش عقلاني معه.
وصلت إلى الفندق، فخرجت من سيارة سيادته التي شعرت بداخلها أنني في سجن أو في وكر عصابة، وأحياناً يكون الاثنان واحداً. وتركت السائق لصيامه الذي يتصوره صياماً. وراح سيادته بعقله الذي لا يعمل وبشفتاه اللتين تقطرانسموماً يُنتجها صدأ عقله.
وبعد إجراءات تسجيلي في الفندق، صعدت إلى غرفتي وفكرت في هذه الفتاة وفي المجتمع الذي هي تعيش فيه والذي يزداد فيه أمثال هذا الرجل يوماً بعد يوم. ثم مرت السنين ووقع حدث ذكرني بها. ففكرت فيها من جديد وفي غيرها وما يتعرضنإليه في حياتهن اليومية في مجتمعات لا تزال لا تفهم، في جملة ما لا تفهم،أنه لا فارق بين إنسان وغيره في الأساس. ولما كان المنطق وإعمال العقل غير ممكنين حقاً لكثير من الناس، وحيث لا تزال الأخلاق تُعَرَّفُ تعريفاً خاطئاً في كثير من مجتمعات الشرق الأوسط لم يعد أمامنا سوى السبيل الأخيرة وهي، كالعادة عندما يقل مستوى الفكر، الشعور بالآخر.
لذا فلقد تَصَوَّرْتُ هذه الفتاة تُعَبِّرُ عن نفسها وعن حياتها داخل مجتمع يتطور تطوراً شكلياً ولكنه في الواقع لا يزال أمامه الكثير حتى يعرف معنى كلمة "إنسان"، وهي بداية التطور الفعلي لأي مجتمع، فقيراً كان أو غنياً، عريق الأصول كان أو حديث التكوين. وإليكم فيما يلي ما أتصورها قائلةً:
"أنا إنسان، مجرد إنسان.لا تروا كلامي هذا بسيطاً سطحياً، بل هو نتاج كفاح وعمل أخذ من غيري جهداً وأخذ منهم راحة البال حتى أتمكن أنا وغيري من أن نقوله... أنا مجرد إنسان. أنا إنسان كغيري، وغيري مثلي، إنسان.منذ صغري تعلمتها، ولكنني لم أتمكن دائماً من إدراك معناها. علمني والدي ووالدتي المسؤولية كما وفرا لي القدر الأكبر من الحرية الذي يمكن لفتاة مثلي أن تتمتع به. ولذا فهما علماني أيضاً أن الحرية لا تُمنح بل هي تُأخذوبدونها ليس الإنسان حقاً إنساناً.
منذ الصغر واجهت الحياة بما هو أغلى من المال وأشد أثراً من القوة، أي بحريتي الداخلية، حريتي في التفكير والاختيار لنفسي، حريتي في بناء رأيي. فإن استحال لي التعبير عنه بقي في رأسي، محافظاً على عقلي، دافعاً عنه خطر الجمود الوجداني الذي يحرم الإنسان من صفة الإنسان.
وفي الجامعة عشت بين قريناتي، باحثة في الأوجه متسائلة: "لماذا لا يُنظر للمرأة على اعتبارها مجرد إنسان؟" وتعلمت في الجامعة وخرجت منها بما يسمح لي أن أسير على أول طريق العلم. واخترت العمل بين الناس، رجالاً ونساءً، فما أجمل أن تكون مجرد إنسان.
أعمل اليوم بين البشر، فالرجل إنسان، والمرأة إنسان.كل يوم أذهب إلى العمل شغوفة مدركة معنى كل حركة وكل كلمة تصدر عني في يوم عملي، إذ هذه وتلك تُقرّب بيني وبين الإنسان داخل كل شخص أتعامل معه، فصناعة الجمال والنظر إليه والتمتع به بحرية وبمسؤولية يجعل الإنسان إنساناً.
قد ينفصل الإنسان عن الإنسان بداخله إن نسي أنه في الأساس إنسان. فالمرأة إنسان والرجل إنسان.
وبدون الحرية لا يكون الإنسان إنساناً. فحتى من يحرمك من الحرية يحرم بذلك نفسه من أن يكون إنساناً. لا تنظروا إلي فتجدوا فتاة، فأنا في الأساس إنسان. شاركوني العمل في سبيل نشر الجمال في كل مكان، فالجمال يرفع روح الإنسان إلى حيث يدرك المرء قيمة الإنسان. لنبني معاً الإنسان بحرية، فبدونها، لا حياة ولا إنسان."
ربما يكون القارئ رجلاً وربما يكون امرأة، وليس ذلك بمهم. فالأهم هو الإنسانية بداخله. فهذه الإنسانية هي التي تصنع المجتمعات. ومن المجتمعات مجتمعات تَطَوَّرَت حقاً بفضل إنسانيتها، ومنها مجتمعات بقيت على حالها، في الجهل قابعة، ومنها مجتمعات صنعت تَطَوُّراً زائفاً ملأ بريقه أعينها بينما هي ظلت في الجهل أيضاً قابعة. وما يُفَرِّقُ بين هذه وتلك هو القِيَمُ الإنسانية ومكانتها في كل منها. لذا فليس من الغريب ألا يكون هناك مصطلح متفق عليه لكلمة "empathy" في اللغة العربية. وسيظل الناطقون بالعربية يبحثون كثيراً في مصطلحاتهم ما دامت قلة إنتاجهم تجعلهم محتاجين إلى ترجمة إنسانيةِ غيرهم.ومادامت الحرية لديهم مسار نقاش وجدال غير محسومين، سيظلون يُترجمون ولا يُنتجون.
بدون الحرية حقاً لا مجال لتطوير أي مجتمع إنساني. ولا يمكن أن يتطور مجتمع يُقمع فيه الأقليات وقليلو الحيلة والبعيدون عن السلطة. فظلم طرف واحد في المجتمع ظلمللمجتمع بأكمله، إذ يفصل الظلم الإنسان عن إنسانيته ويجعله صورة إنسان. كما أنه لا إنسانية في مجتمع يَقبل بالظلم قاعدة حتى إن دفع ثمنها عدد قليل.
كتب القس الألماني مارتن ليمولير:
"عندما هجم النازيون على الشيوعيين، لم أتكلم
فأنا، في الواقع، لم أكن شيوعياً
وعندما هجم النازيون على الاشتراكيين، لم أتكلم
فأنا، في الواقع، لم أكن اشتراكياً
وعندما هجم النازيون على النقابات العمالية، لم أتكلم
فأنا، في الواقع، لم أكن ناشطاً عُمَّالياً
وعندما هجم النازيون على اليهود، لم أتكلم
فأنا، في الواقع، لم أكن يهودياً
ثم هجم النازيون عليّ أنا، فلم أجد من يتكلم "
لا أمل في مجتمع يقبل بالقهر ولا يريد الحرية. فإن أراد أحد أبناء مجتمعٍهذه صفةٌ من صفاتِه أن يتكلم ليُدافع عن مثل هذا القس، الذي شارك في قهر نفسه بقبوله قهر غيره، فهو لن يستطيع أن يتكلم بلغته، وسيحتاج إلى مترجم يجيد لغةً إنسانيةًمن تلك التي لايفهمها أبناءُ مجتمعه.
........
ترجمت بنفسي هذه الأبيات إلى العربية. وثمة خلاف ما على ترتيبها في نصها الأصلي، وظهرت لها صيغ مختلفة، ولكن الأهم هو المعنى الذي رمى إليه كاتبها وهو لا يختلف باختلاف هذه الصيغ.

نيسان ـ نشر في 2018-11-27 الساعة 20:15


رأي: م. حاتم يونس كاتب أردني

الكلمات الأكثر بحثاً