اتصل بنا
 

الرئيس الأميركي روزفلت يأخذ بيد أعدائه من الكتاب اليساريين

نيسان ـ نشر في 2022-11-26

الرئيس الأميركي روزفلت يأخذ بيد أعدائه
نيسان ـ على عكس صورته التي باتت شائعة في ما بعد وسوف تكلف أنصاره كثيراً إذ سيطاولهم اضطهاد كبير على يد اليمين الأميركي وبخاصة إبان نشاطات اللجنة الماكارثية سيئة السمعة، لم يكن الرئيس الأميركي فرانكلين ديلانو روزفلت محباً لليسار، بل لم يكن يستسيغ المسرح اليساري ولم يكن يحب المسرح بشكل عام، بالتالي لم يكن بقادر على أن "يهضم" المسرحيين اليساريين. ومع ذلك بين عامين 1933 و1934 لن يتردد ذلك الرئيس الأميركي النبيه في التوقيع على ذلك المرسوم الرئاسي الذي لا تزال تدين له الحياة الثقافية الأميركية، بكونه ليس فقط أنقذ من البطالة والآثار المدمرة للكارثة الاقتصادية التي كانت حلت بالبلد خلال السنوات الماضية، ألوف الفنانين والمسرحيين بخاصة ومن بينهم مئات اليساريين بل حتى الأعضاء في الحزب الشيوعي، بل كذلك بأن ما أقدم عليه قد أطلق حراكاً مسرحياً لا مثيل له في أي مكان في العالم ووسط ما يشبه تلك الظروف بالذات. ولنتأمل بعض الأسماء التي استفادت مما أقدم عليه الرئيس: من آرثر ميلر إلى أورسون ويلز ومن تنيسي ويليامز إلى كليفورد أوديتس مروراً بمسرح ميركوري ومسرح الغلوب ومسرح الغيلد واللائحة تطول، وصولاً إلى أولئك الكتاب -كتاب السيناريو وكتاب المسرحيات- الذين سيسمون لاحقاً "عشرة هوليوود" وهم جميعاً يساريون متطرفون غالباً يحملون أسماء أبراهام بولانسكي وبن هشت ودالتون ترمبو وغيرهم، وهم جميعاً كانوا يوم التقطتهم لجنة السيناتور ماكارثي لتحاربهم وتدمرهم، من العاملين في المسرح كتابة وإخراجاً، وشملتهم بالتالي تلك الإجراءات الرئاسية الأميركية التي حملت اسماً إدارياً تشريعياً لا يزال يشع بالنور حتى اليوم: "المشروع الفيدرالي للمسرح".
وراء كل رجل عظيم...
فهل كان معنى ذلك أن روزفلت قد تغير؟ على الإطلاق، بل هو سلك درب الواقعية متخذاً موقفاً وطنياً مدهشاً، وذلك بفضل مستشارين من اللافت أنهما لم يكونا أصلاً من العاملين معه مباشرة بل مع زوجته السيدة الأولى إليانور روزفلت. ولنسارع إلى التأكيد هنا أيضاً أن هذين المستشارين لئن كانا من محبي المسرح فإنهما كانا يشاركان الرئيس والسيدة الأولى حذرهما إزاء الفنانين اليساريين والشيوعيين بخاصة. ولكن: ما العمل والفكر اليساري كان مسيطراً على هذا الفن كما على سواه من الفنون الأخرى الأكثر جدية من دون منازع؟ ما العمل وها هي ذي الظروف كما رأى المستشاران تفرض "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" ولتؤجل المعارك الأيديولوجية إلى زمن لاحق! فالمطلوب الآن إنقاذ المسرح وإنقاذ ألوف العاطلين عن العمل. "الفن المسرحي الحقيقي بات على المحك"، همس المستشاران في أذن السيدة إليانور إذاً. وولد "المشروع الفيدرالي للمسرح" الذي أسفر عن تلك النهضة التي لا تزال تحمل اسم "المسرح الروزفلتي"!
في حومة "الصفقة الجديدة"
يعتبر المشروع الفيدرالي للمسرح الجزء الأكثر بروزاً والأكثر في سياسة "الصفقة الجديدة" التي عرفت باسم "فدرال وان" وتمثلت في ما سمي "صفقة روزفلت الثانية" التي أطلقت على هامش "الصفقة الجديدة" الأصلية التي تمكنت خلال فترة قصيرة من تعديل الأمور في الاقتصاد والعمل الأميركيين، مستندة بخاصة إلى نظرية الاقتصادي الإنجليزي جون ماينارد كينز حول تدخلية الدولة من دون أن تتحول كلية إلى دولة رفاهية، فالتطبيق هنا أميركي وأميركا اتحادية مع كل ما يعنيه هذا من كوابح وموانع ومحاذير. ولعل ما يهمنا هنا من ذلك كله أن المستشار الأول بين الاثنين اللذين أشرنا إليهما وهو هاري هوبكنز الذي كان من محبي الثقافة بشكل عام ويتمتع في "بلاط" إليانور روزفلت بمكانة وصلاحيات وزير، عرض للسيدة أفكاراً بسيطة تتحرك من حول أرقام بالغة التعقيد، داعياً إلى دعم الدولة مشروعاً تشغيلياً طويلاً عريضاً يصرف النظر عن النيات الأيديولوجية لما يزيد على 7000 كاتب و13000 ممثل وتقني و16000 ألف موسيقي في نحو 31 ولاية أميركية رئيسة، ويؤمن لهم دعماً مادياً ضخماً يمكنهم من تقديم أعمالهم، ومهما كان شأنها ونوعها، أمام ملايين المتفرجين لتحسيسهم بجوهر ما يعانونه، ويدعون إلى العمل يداً بيد في سبيل النهوض. وحتى لو ستبدو الفكرة منطقية لاحقاً فإنها في ذلك الحين كانت ستبدو تخريفية وغير ممكنة التطبيق لولا تدخل... المستشارة الثانية التي كانت هي من المناضلات في سبيل رفعة المسرح الأميركي وقيامه بدوره في نهضة الأمة. هذه المستشارة كانت هذه المرة الصحافية والناقدة المسرحية لورينا هايكوك التي كانت لها ميزتان، أولاهما أنها كانت من أوائل الصحافيين الذين ساندوا صفقة الرئيس روزفلت الجديدة منذ انطلاقتها. وثاني الميزتين أنها كانت تعتبر الصديقة الحميمة لإليانور روزفلت بالتالي لم تكن في حاجة إلى وقت طويل حتى تقنع هذه الأخيرة بجدوى مشروع هوبكنز ما إن اطلعت عليه.
على الضد من أوروبا
لكن الأهم من هذا، وبحسب ما همست به إليانور للرئيس تبعاً لما همس به لها كل من هوبكنز وهايكوك، يكمن في مكان آخر كان يبدو دائماً عزيزاً على الرئيس وعلى حسه الأميركي. فالحال أن الثقافة الأميركية ولا سيما بالنسبة إلى المسرح كانت لا تزال تبدو عالة على "الابتكارات" الأوروبية. فلماذا لا نحاول أمركة هذه الثقافة عبر الدعم ولكن كذلك عبر تحليق جمهور عريض يخرجها من نخبويتها الأوروبية ويؤمركها؟ وفي هذا المجال سيكون لافتاً وصائباً ما يذكره باحث فرنسي يدعى فردريك مارتل تحدث عن هذا الأمر معطياً في هذا السياق أسماء مسرحيين وغير مسرحيين كانوا قبل عام 1930 معروفين بنزوعهم الأوروبي في مجالات إبداعهم، ومنهم الكتاب صول بيلو ونلسون آلغرين وروبرت فروست والرسامان مارك روتكو وجاكسون بولوك، والمصوران الفوتوغرافيان بيرينيس آبوت ووالكر إيفانز، والموسيقي آرون كوبلاند، ومسؤولو إنشاء أوركسترا بيتسبرغ السيمفونية، والسينمائيون الكبار جون هستون وجوزف لوزاي ونيكولاس راي، من دون أن ننسى الكتاب المسرحيين الذين ذكرناهم وكانوا من المعنيين بالموضوع قبل غيرهم ومن بينهم طبعاً آرثر ميلر الذي سيكون من أبرز وجوه برودواي بمسرحه الاجتماعي بعد ذلك مباشرة. وهنا من دون أن ننسى كذلك وبالطبع الفنان الذي لا يزال يعتبر الرمز الأكثر رسوخاً لذلك كله: أورسون ويلز الذي كان في ذلك الحين من أبرز وجوه الحركة المسرحية في أميركا بتمثيله وإخراجه والفرق التي يكونها وبعد ذلك يفرطها ليكون غيرها.
مهما يكن فإن استعراضاً من كثب لجهود كل أولئك الذين استفادوا وأفادوا من ذلك المشروع، وكلهم من الذين وجدوا في المشروع الفيدرالي دعماً مادياً ومعنوياً لهم، وكيف أنهم تمكنوا خلال ما لا يزيد على عقد من خلق ثقافة أميركية حية وحيوية على أطلال نوازعهم الأوروبية السالفة، استعراضاً من هذا النوع سيكون كافياً ليقول لنا كم أن المشروع الذي "فرضته" السيدة إليانور على السيد الرئيس كان مثمراً، بل إن في وسعنا على أية حال، وتحديداً في الجانب المسرحي في الأقل، أن نرى كيف أن المشروع قد أعاد خلق المسرح الأميركي من جديد وحتى من دون أن يطالب المبدعون بالعمل على أية تغييرات أيديولوجية في بنية الدولة أو هوية الأمة. ولعل من حظ المشروع في هذا السياق أن إنقاذه قد جاء من حيث لم يكن متوقعاً: من موسكو نفسها ومن ستالين زعيم الاتحاد السوفياتي. فالحال أن النهضة المسرحية التي قادها كتاب ديمقراطيون ويساريون، بل حتى شيوعيون أميركيون، تزامنت مع حقبة محاكمات موسكو والقمع الذي راح المبدعون السوفيات يتعرضون له سجناً ونفياً وإعداماً ومنعاً من العمل، وقد لا نكون في حاجة هنا إلى التذكير بأن المبدعين الأميركيين ولا سيما اليساريون وحتى الشيوعيون من بينهم كانوا في طليعة المنددين بما يجري في موسكو بالتالي لم "يخدع" أي منهم سيد البيت الأبيض ولا سيدته، بل عبروا عن تعلقهم بالديمقراطية الأميركية، مما خلق فترة سماح بين أفكارهم الإبداعية حقاً والأمة التي ينتمون إليها ولكن ليس لفترة طويلة من الزمن.
رجل تاريخي
إذ نعرف أنه ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية وزال حكم روزفلت ورحل عن عالمنا وبدأت الحرب الباردة، حتى اندلعت صراعات أيديولوجية أميركية/ أميركية كانت علامتها المميزة لجنة النشاطات المعادية لأميركا التي من خلال الحرب التي شنتها على من يسمون "الحمر" تعبيراً عن شيوعيتهم، إنما شنت حرباً عنيفة ضد الروزفلتيين أنفسهم الذين كان وجودهم قد تعزز في الدولة العميقة ولا سيما في الجيش ووزارة الخارجية، لكن هذا موضوع آخر بالطبع.

نيسان ـ نشر في 2022-11-26


رأي: إبراهيم العريس

الكلمات الأكثر بحثاً