'ليالي سانت بطرسبورغ': مفكر فرنسي ضد الثورة والتنوير
نيسان ـ نشر في 2023-04-09
نيسان ـ حتى من قبل أن تغرق الثورة الفرنسية في ذلك الإرهاب الفظيع الذي تحولت إليه بعدما كانت أملاً لفرنسيين كثر وأوروبيين أكثر، كانت محاطة بالخصوم والأعداء من كل جانب، لا سيما في الأوساط الفكرية. وهي بعدما صارت فصلاً إرهابياً في تاريخ البشرية تكاثر أعداؤها بحيث أن ثمة اليوم دراسات وكتباً تتحدث عن تلك "الخيبة التاريخية" الكبرى التي تمخضت عنها أول ثورة اجتماعية في تاريخ البشرية. لكن الباحث الفرنسي جوزف دي ميستر، ويسمى اليوم جوزف دي ميتر، لم ينتظر تحولات الثورة حتى يقف منها واحداً من المواقف الفكرية الأكثر عداء. ففي نهاية الأمر لم يكن جديداً عليه أن يعلن ذات يوم قائلاً، تحديدا انطلاقاً من الفكر التنويري المنطلق من خلفيات الثورة، إنه "لمن الضرورة بمكان خنق فكر القرن الـ18 برمته". ويقيناً أن هذا الفيلسوف المؤيد للملكية الذي عرف بأفكاره الرجعية، وأيضاً بكتابته وكذلك بعمله ضد الثورة الفرنسية، كان يعني بالفكر الذي يجب خنقه كل ذلك الفكر الثوري والإصلاحي الذي هيمن على القرن الـ18 كله، وكان اندلاع الثورة الفرنسية من أهم نتائجه المباشرة. وفي معرض تفسيره لقوله هذا واستكماله، أوضح دي ميستر الذي كان من أبرز وأجرأ الذين وقفوا يعارضون فلسفة "الأنوار"، أن البديل عن ذلك كله إنما هو الإيمان بوجود "نظام فوق طبيعي" هو نظام "حكومة العناية الإلهية الكلية"، مستطرداً أن "الثورة، على سبيل المثال، مدمرة ومضرة وشيطانية، في مظاهرها المباشرة لذلك، تتعين محاربتها"...
تناقضات لا بد منها
غير أن هذا لم يدفع دي ميستر بعيداً من التأكيد في مجال آخر أن "الثورة تخضع، مع ذلك، وفي قرارة الأمر، لخطة رسمتها العناية الإلهية، والدليل على ذلك أنه يتعذر تفسيرها تفسيراً بشرياً، إذ إن الرجال الذين بدوا وكأنهم يوجهونها كانوا في الواقع يوجَّهون من جانبها، من قائد أوركسترا سري وخفي هو العناية الإلهية". ولئن كان هذا يبدي لنا بأن الله هو الذي يسيّر ذلك كله، فإنه في الواقع هو الذي يسير ويبني على المدى البعيد. ولئن كان الله أوقع بفرنسا هذا العقاب الإلزامي فإنه لم يفعل ذلك إلا لكي يذكرها بضرورة العودة للرسالة المسيحية". ولكن ما هي الأخطاء التي وقعت فيها فرنسا لكي تستحق هذا الدمار، يتساءل دي ميستر قبل أن يجيب، هي "الخفة وانحلال الأخلاق في أواخر العهد الملكي القديم، بكل تأكيد، ولكن أيضاً سعيها إلى الحصول على دستور مكتوب، الأمر الذي يفترض أن الدستور يمكن أن يصلح في كل الأزمنة وللناس كافة بغض النظر عن وسطهم وعن ماضيهم الجماعي".
أهوال الثورة بدل حماساتها
هل يذكرنا هذا الكلام الذي لطالما هوجم في فرنسا بشيء؟ حسناً... المهم أن دي ميستر قال هذا الكلام بوصفه، وبحسب الباحث أندريه كانينفتس "واحداً من أولئك المفكرين الذين عاشوا أهوال الثورة لا حماساتها فتبدت لهم، حال انطفائها، سلبية هدامة مرعبة، من صنع بشرية فقدت اتصالها بالله". أفكار دي ميستر هذه، إذ كان طوال النصف الثاني من حياته عبر عنها في كثير من الكتب، فإنه عاد ولخصها في شكل شديد الوضوح، لكنه لا يخلو من حيرة ومن تساؤلات، في ذلك الكتاب الغني والمفاجئ الذي أنجزه خلال سنوات حياته الأخيرة لكنه لم ينشر إلا بعد موته بأشهر وعنوانه "ليالي سانت بطرسبورغ"، وهو عبارة عن تسجيل لحوارات وهمية (؟) تدور كما يقول لنا الكتاب خلال تلك الليالي البيضاء في مدينة الشمال الروسي، بين دي ميستر نفسه الذي كان في ذلك الحين يشغل منصب سفير للملك الأيطالي عمانؤيل الأول، ملك سردينيا، لدى البلاط القيصري الروسي، وبين سيناتور ينتمي إلى هذا البلاط وفارس فرنسي... وهؤلاء الثلاثة، كما يصفهم لنا الكتاب، يجتمعون كل عشية في منزل ريفي بالغرب من العاصمة الروسية، على ضفة نهر النيفا، لكي يتناقشوا حول كثير من الأمور السياسية والفكرية والدينية، بحيث يعطي الكاتب لنفسه الأرجحية والغلبة على صديقيه في الاستنتاجات، بالتالي يعطي الحق لنفسه خلال السجالات، لا سيما حين يؤكد أن "حياة الشعوب إنما تستند أساساً إلى سلطة الملك وعنايته، ومن ثم إلى سلطة الكنيسة" وذلك بالتعارض التام مع كل ما كانت أتت به أفكار "عصر الأنوار".
محاولة للتفسير
وهذا ما جعل تاريخ الفلسفة ينظر إلى دي ميستر على أنه "النقيض الكلي لفولتير". ومن هنا لم يكن غريباً لدي ميستر أن يصرخ في كتابه هذا قائلاً، "رباه... كم كلفت العلوم الطبيعية الإنسان!"، كما يفيدنا كتاب إميل برهييه "تاريخ الفلسفة في القرن الـ19" الذي نقله جورج طرابيشي إلى العربية في أجزاء عدة مضيفاً أن دي ميستر يرى أن "مبتدعيْ فكر القرن الـ18 الذي تسبب في أذى عظيم، إنما هما بيكون ولوك"، لذلك يوجه إليهما، في "ليالي سانت بطرسبورغ" انتقاداته، قبل أن يوجهها إلى فولتير وديدرو وهو "رداً على نزعتهما التجريبية يعود للإشادة بالمذهب الفطري الديكارتي". وفي هذا الإطار يرى دي ميستر ودائماً هنا بحسب تفسير برهييه أن "كل موجود فاعل يمارس فعله في الدائرة المرسومة له من دون أن يمكنه أبداً الخروج منها". والنتيجة الضرورية التي تترتب على مثل هذه الحقيقة هي العودة للمذهب الفطري بشرط الخلط بين فطرة الأفكار وفطرة الغريزة وعلى هذا الأساس يخلص دي ميستر، في الصفحات الأخيرة من "أمسيات سانت بطرسبورغ" إلى أن "ليس ثمة علل في المادة، وأتقياء الناس هم وحدهم الذين يستطيعون ويريدون الخروج من هذه المادة "المادة فقط ذاتها". ويرى كتاب "ليالي سانت بطرسبورغ " أن الصلاة قد لا تقل فاعليتها ضد الصاعقة عن واقية الصواعق، وبفضل تراكب العلل الثانية مع الفعل الأعلى، لا يكون حقل الممكن محدوداً بالعلل الطبيعية، وذلك باب يشرع على الخيال بجميع ضروبه على الإطلاق متوقفاً عند نيوتن، هو الذي جعله يرى رد فعل دي ميستر العنيف ضد الفلاسفة ممكناً انطلاقاً من مبدأ يقول إن "عدالة الله لا علاقة لها بعدالتنا، وعنايته لا صلة لها بالحصافة البشرية. إن عدالة الإنسان مبدؤها مسؤولية المذنب، أما عدالة الله، فعلى العكس من هذا، مبدؤها قابلية إلقاء تبعة أخطاء المذنب على البريء". والفعل النموذجي للعدالة الإنسانية، في رأي دي ميستر هو "تضحية المسيح، إذ هنا نرى بريئاً يدفع الثمن عن البشرية المذنبة. وهذا الافتداء بالدم هو المبدأ الغامض لعادة الأضاحي، المشتركة بين ديانات كثيرة. لكنه هو أيضاً ما يفسر لنا الحروب التي لا ينقطع لها خيط والسر الحقيقي للثورة الفرنسية التي لقي منها كثرة من الضحايا الأبرياء مصرعهم لأخطاء ما هي بأخطائهم".
ولد جوزف دي ميستر عام 1753 في منطقة السافوا الفرنسية ومات عام 1821 في تورينو وهو كابن لوالد كان رئىساً لمجلس الشيوخ في بافيا، نشأ نشأة أرستقراطية علمية ودخل سلك القضاء وكان لا يزال في الـ20 من عمره. وعلى رغم نشأته الكنسية الخالصة نراه خلال 15 عاماً من حياته ينضم إلى الماسونيين، ثم اكتشف "إشراقيي" ليون وانضم إليهم. وعندما قامت الثورة الفرنسية باركها دي ميستر وناصرها، لكنها سرعان ما خيبت أمله بعنفها، وهرب إلى لوزان حين راح يكتب ضدها. وعام 1803 أوفد سفيراً لملك سردينيا إلى روسيا. ثم عاد لباريس لينضم إلى الفرنسيين من أنصار عودة الملكية... وراحت كتبه تتالى، من "عن البابا" إلى "رسالة حول الكنيسة الفاتيكانية" إلى "رسائل إلى وجيه روسي حول محاكم التفتيش الإسبانية" الذي نشر بعد رحيله مثل معظم كتبه.
تناقضات لا بد منها
غير أن هذا لم يدفع دي ميستر بعيداً من التأكيد في مجال آخر أن "الثورة تخضع، مع ذلك، وفي قرارة الأمر، لخطة رسمتها العناية الإلهية، والدليل على ذلك أنه يتعذر تفسيرها تفسيراً بشرياً، إذ إن الرجال الذين بدوا وكأنهم يوجهونها كانوا في الواقع يوجَّهون من جانبها، من قائد أوركسترا سري وخفي هو العناية الإلهية". ولئن كان هذا يبدي لنا بأن الله هو الذي يسيّر ذلك كله، فإنه في الواقع هو الذي يسير ويبني على المدى البعيد. ولئن كان الله أوقع بفرنسا هذا العقاب الإلزامي فإنه لم يفعل ذلك إلا لكي يذكرها بضرورة العودة للرسالة المسيحية". ولكن ما هي الأخطاء التي وقعت فيها فرنسا لكي تستحق هذا الدمار، يتساءل دي ميستر قبل أن يجيب، هي "الخفة وانحلال الأخلاق في أواخر العهد الملكي القديم، بكل تأكيد، ولكن أيضاً سعيها إلى الحصول على دستور مكتوب، الأمر الذي يفترض أن الدستور يمكن أن يصلح في كل الأزمنة وللناس كافة بغض النظر عن وسطهم وعن ماضيهم الجماعي".
أهوال الثورة بدل حماساتها
هل يذكرنا هذا الكلام الذي لطالما هوجم في فرنسا بشيء؟ حسناً... المهم أن دي ميستر قال هذا الكلام بوصفه، وبحسب الباحث أندريه كانينفتس "واحداً من أولئك المفكرين الذين عاشوا أهوال الثورة لا حماساتها فتبدت لهم، حال انطفائها، سلبية هدامة مرعبة، من صنع بشرية فقدت اتصالها بالله". أفكار دي ميستر هذه، إذ كان طوال النصف الثاني من حياته عبر عنها في كثير من الكتب، فإنه عاد ولخصها في شكل شديد الوضوح، لكنه لا يخلو من حيرة ومن تساؤلات، في ذلك الكتاب الغني والمفاجئ الذي أنجزه خلال سنوات حياته الأخيرة لكنه لم ينشر إلا بعد موته بأشهر وعنوانه "ليالي سانت بطرسبورغ"، وهو عبارة عن تسجيل لحوارات وهمية (؟) تدور كما يقول لنا الكتاب خلال تلك الليالي البيضاء في مدينة الشمال الروسي، بين دي ميستر نفسه الذي كان في ذلك الحين يشغل منصب سفير للملك الأيطالي عمانؤيل الأول، ملك سردينيا، لدى البلاط القيصري الروسي، وبين سيناتور ينتمي إلى هذا البلاط وفارس فرنسي... وهؤلاء الثلاثة، كما يصفهم لنا الكتاب، يجتمعون كل عشية في منزل ريفي بالغرب من العاصمة الروسية، على ضفة نهر النيفا، لكي يتناقشوا حول كثير من الأمور السياسية والفكرية والدينية، بحيث يعطي الكاتب لنفسه الأرجحية والغلبة على صديقيه في الاستنتاجات، بالتالي يعطي الحق لنفسه خلال السجالات، لا سيما حين يؤكد أن "حياة الشعوب إنما تستند أساساً إلى سلطة الملك وعنايته، ومن ثم إلى سلطة الكنيسة" وذلك بالتعارض التام مع كل ما كانت أتت به أفكار "عصر الأنوار".
محاولة للتفسير
وهذا ما جعل تاريخ الفلسفة ينظر إلى دي ميستر على أنه "النقيض الكلي لفولتير". ومن هنا لم يكن غريباً لدي ميستر أن يصرخ في كتابه هذا قائلاً، "رباه... كم كلفت العلوم الطبيعية الإنسان!"، كما يفيدنا كتاب إميل برهييه "تاريخ الفلسفة في القرن الـ19" الذي نقله جورج طرابيشي إلى العربية في أجزاء عدة مضيفاً أن دي ميستر يرى أن "مبتدعيْ فكر القرن الـ18 الذي تسبب في أذى عظيم، إنما هما بيكون ولوك"، لذلك يوجه إليهما، في "ليالي سانت بطرسبورغ" انتقاداته، قبل أن يوجهها إلى فولتير وديدرو وهو "رداً على نزعتهما التجريبية يعود للإشادة بالمذهب الفطري الديكارتي". وفي هذا الإطار يرى دي ميستر ودائماً هنا بحسب تفسير برهييه أن "كل موجود فاعل يمارس فعله في الدائرة المرسومة له من دون أن يمكنه أبداً الخروج منها". والنتيجة الضرورية التي تترتب على مثل هذه الحقيقة هي العودة للمذهب الفطري بشرط الخلط بين فطرة الأفكار وفطرة الغريزة وعلى هذا الأساس يخلص دي ميستر، في الصفحات الأخيرة من "أمسيات سانت بطرسبورغ" إلى أن "ليس ثمة علل في المادة، وأتقياء الناس هم وحدهم الذين يستطيعون ويريدون الخروج من هذه المادة "المادة فقط ذاتها". ويرى كتاب "ليالي سانت بطرسبورغ " أن الصلاة قد لا تقل فاعليتها ضد الصاعقة عن واقية الصواعق، وبفضل تراكب العلل الثانية مع الفعل الأعلى، لا يكون حقل الممكن محدوداً بالعلل الطبيعية، وذلك باب يشرع على الخيال بجميع ضروبه على الإطلاق متوقفاً عند نيوتن، هو الذي جعله يرى رد فعل دي ميستر العنيف ضد الفلاسفة ممكناً انطلاقاً من مبدأ يقول إن "عدالة الله لا علاقة لها بعدالتنا، وعنايته لا صلة لها بالحصافة البشرية. إن عدالة الإنسان مبدؤها مسؤولية المذنب، أما عدالة الله، فعلى العكس من هذا، مبدؤها قابلية إلقاء تبعة أخطاء المذنب على البريء". والفعل النموذجي للعدالة الإنسانية، في رأي دي ميستر هو "تضحية المسيح، إذ هنا نرى بريئاً يدفع الثمن عن البشرية المذنبة. وهذا الافتداء بالدم هو المبدأ الغامض لعادة الأضاحي، المشتركة بين ديانات كثيرة. لكنه هو أيضاً ما يفسر لنا الحروب التي لا ينقطع لها خيط والسر الحقيقي للثورة الفرنسية التي لقي منها كثرة من الضحايا الأبرياء مصرعهم لأخطاء ما هي بأخطائهم".
ولد جوزف دي ميستر عام 1753 في منطقة السافوا الفرنسية ومات عام 1821 في تورينو وهو كابن لوالد كان رئىساً لمجلس الشيوخ في بافيا، نشأ نشأة أرستقراطية علمية ودخل سلك القضاء وكان لا يزال في الـ20 من عمره. وعلى رغم نشأته الكنسية الخالصة نراه خلال 15 عاماً من حياته ينضم إلى الماسونيين، ثم اكتشف "إشراقيي" ليون وانضم إليهم. وعندما قامت الثورة الفرنسية باركها دي ميستر وناصرها، لكنها سرعان ما خيبت أمله بعنفها، وهرب إلى لوزان حين راح يكتب ضدها. وعام 1803 أوفد سفيراً لملك سردينيا إلى روسيا. ثم عاد لباريس لينضم إلى الفرنسيين من أنصار عودة الملكية... وراحت كتبه تتالى، من "عن البابا" إلى "رسالة حول الكنيسة الفاتيكانية" إلى "رسائل إلى وجيه روسي حول محاكم التفتيش الإسبانية" الذي نشر بعد رحيله مثل معظم كتبه.
نيسان ـ نشر في 2023-04-09
رأي: إبراهيم العريس