الإسقاط النفسي الجمعي
نيسان ـ نشر في 2023-11-20 الساعة 13:20
نيسان ـ يُعرف الإسقاط النفسي في علم النفس بأنه حالة نفسية يلجأ إليها الشخص للدفاع عن نفسه بإلقاء التهم على غيره، وتبرير فشله وفساده وإهماله بالتآمر عليه ومحاولة تدميره. يقول عالم النفس سيجموند فرويد مؤسس علم التحليل النفسي: "يشير الإسقاط أولا إلى حيلة لا شعورية من حيل دفاع الأنا، وبمقتضاها ينسب الشخص إلى غيره ميولًا وأفكارًا مستمدة من خبرته الذاتية يرفض الاعتراف بها لما تسببه من ألم، وما تثيره من مشاعر الذنب"، فالإسقاط بهذا الاعتبار هو أداة للكبت؛ أيْ طريقة يلجأ إليها الشخص لإبعاد الحالات النفسية المؤلمة عن حيز الوعي.
وفي هذا الإطار، فإن الإسقاط النفسي هو مرض شعوري نفسي يصيب الفرد، سببه الشعور الواعي بالألم، الألم الذي بُنِي على فكرة التناقض بين الأمل والطموح ورغبات النفس في تحقيق منافعها ومكاسبها وشهواتها، ومقاومة الواقع المرير، فيقع المرء حينها في الاعتراف بالذات كأنا، وإنكار الآخر بوصفه عدوا صريحا لتلك الأنا، فيختلق الأعذار معلقا أخطاءه وفساده على شماعة كل ما هو خارج ذاته، كأن يضع اللوم لفساده وفشله على سوء تربيته أو تعليمه أو أصدقائه أو جيرانه أو القانون أو مؤسسات الدولة، أو أنه يلجأ إلى فكرة الاستهداف الخارجي له، أو فوبيا الاضطهاد، كالإيمان بفكرة المؤامرة في كل شيء، فلباسه مؤامرة، وأكله مؤامرة، وكذلك، تعليمه ومشيته وتفكيره وأولاده وزوجته وغير ذلك.
لينتقل بعد ذلك من الإسقاط النفسي للفرد إلى الإسقاط النفسي للجماعة، فجموع الناس تفكر بنفسية الرجل الفرد الذي يعاني هذا الإسقاط، فالناس تعيش حالة من الإسقاط النفسي اللاشعوري في عملية التبرير لكل ما تعانيه من فساد وتخلف وجهل وفقر، وذلك من خلال فكرة المؤامرة، وأنهم مستهدفون في كل ما يفعلون ويعملون ويؤمنون به من عدو يتربص بهم الدوائر لجعلهم هكذا. وبالتالي، أصبحوا سدا منيعا في وجه كل عملية إصلاح من شأنها أن تقف على المشكلة ووصفها وعلاجها، هذا من جهة، وأن تقف على تجارب الآخر الناجح والمتقدم، للاستفادة منها والعمل عليها لعلها تكون حلا لكثير من مشكلاتنا وفسادنا.
في هذا السياق، أعني في سياق الحديث عن الآخر، مهما كان نوع الحديث سلبا أو إيجابا، فإنه مرفوض لأنه يتعارض مع الحالة اللاشعورية للإسقاط النفسي الجمعي، بوصفه أي الحديث، نوعا من أنواع تعرية الحقيقة، وبيان زيفهم وكذبهم فيما يشعرون به ويمارسونه من ذلك الإسقاط، وهذا بلا شك، يتطلب منهم أن يتخلّوا عن كثير مما يشكل عندهم نمط حياة يرونه مريحا جسدا وفكرا وعاطفة.
وباعتبار هذا الآخر، عدوا يريد بهم الشر، فكل ما يصدر عنه ومنه، هو شرّ لا يُؤخذ به، سواء أكان في العلوم أم الإنسانيات أم السياسة أم الدولة أم في أي شأن من شؤون الحياة، فالحديث عن نظريات نشأة الكون والحياة على الأرض مرفوض بالكلية لأنه يدعو إلى الإلحاد والكفر، ونظريات النفس والاجتماع والسياسة مرفوضة بالكلية لأنها تدعو للفساد الأخلاقي والانحلال الأسري ومحاربة الدين، وكل الدراسات التي تقف على قضايا التاريخ والتراث الديني والأدبي مرفوضه بالكلية أيضا، وإن كان أغلبها انطلق من منظور موضوعي بحت، وبمناهج علمية وعقلية.
فكل ما سلف، هو مرفوض غيبا دون أدنى نظر في ما هو مطروح، وذلك لأن المجتمع باعباره متلقيا يعاني من إسقاط نفسي لا واع يحتم عليه رفض كل شيء من الآخر بوصفه عدوا ومتآمرا عليه لتدميره وهلاكه، وأنه السبب الرئيس لحالته التي يعايشها من جهل وتخلف وفساد. وهكذا، يبقى المريض بالإسقاط النفسي في مشكلته ومعاناته لا ينفك عنها ولا يخرج منها، وينصب تفكيره في المشكلة كواقع لا بد منه بعيدا كل البعد عن أي حل. لأن الحل ببساطة شديدة، يحتاج، أولا، إلى الاعتراف بالذنب والتقصير والإهمال الذاتي للشخص والمجتمع، وهذا يتناقض بكل تأكيد مع فكرة الكمال المطلق للمريض بالإسقاط النفسي فردا كان أم جماعة. ويحتاج، ثانيا، إلى جهد وعمل وتفكير ومواجهة التحديات الفكرية والعاطفية والمجتمعية والاقتصادية وغير ذلك؛ مما يدفعهم إلى تغيير نمط حياتهم المريح كما أسلفنا.
ومما يمكن أن نلحظه من الإسقاط الجمعي ما جاء في القرآن الكريم في تخاصم أهل النار، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ* وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿"وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ* فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ* فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ* فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون﴾.
وجلي من الآيات أنّ كل فريق يرمي باللوم على الآخر، وأنه السبب في ضلاله وفساده. ليدفع عن نفسه تهمة التقصير والفساد والجهل، راميا بها في وجه الآخر، كأعذار عن ذنبه، وهي أعذار لا قيمة لها، وقتئذ: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾.
وفي إطار ما سلف، يتضح لنا الاستعمال القرآني لمفردة "الأمة" كأنها فرد وليست جماعة، وذلك لأن الجماعة، تسلك مسلك الفرد الواحد في اعتقاده وتفكيره وانتمائه وعاطفته وسلوكه، فيعاملون معاملة الواحد لا الأفراد؛ أي كيان واحد لا أجزاء، يقول تعالى: ﴿"وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿"وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وفي هذا الإطار، فإن الإسقاط النفسي هو مرض شعوري نفسي يصيب الفرد، سببه الشعور الواعي بالألم، الألم الذي بُنِي على فكرة التناقض بين الأمل والطموح ورغبات النفس في تحقيق منافعها ومكاسبها وشهواتها، ومقاومة الواقع المرير، فيقع المرء حينها في الاعتراف بالذات كأنا، وإنكار الآخر بوصفه عدوا صريحا لتلك الأنا، فيختلق الأعذار معلقا أخطاءه وفساده على شماعة كل ما هو خارج ذاته، كأن يضع اللوم لفساده وفشله على سوء تربيته أو تعليمه أو أصدقائه أو جيرانه أو القانون أو مؤسسات الدولة، أو أنه يلجأ إلى فكرة الاستهداف الخارجي له، أو فوبيا الاضطهاد، كالإيمان بفكرة المؤامرة في كل شيء، فلباسه مؤامرة، وأكله مؤامرة، وكذلك، تعليمه ومشيته وتفكيره وأولاده وزوجته وغير ذلك.
لينتقل بعد ذلك من الإسقاط النفسي للفرد إلى الإسقاط النفسي للجماعة، فجموع الناس تفكر بنفسية الرجل الفرد الذي يعاني هذا الإسقاط، فالناس تعيش حالة من الإسقاط النفسي اللاشعوري في عملية التبرير لكل ما تعانيه من فساد وتخلف وجهل وفقر، وذلك من خلال فكرة المؤامرة، وأنهم مستهدفون في كل ما يفعلون ويعملون ويؤمنون به من عدو يتربص بهم الدوائر لجعلهم هكذا. وبالتالي، أصبحوا سدا منيعا في وجه كل عملية إصلاح من شأنها أن تقف على المشكلة ووصفها وعلاجها، هذا من جهة، وأن تقف على تجارب الآخر الناجح والمتقدم، للاستفادة منها والعمل عليها لعلها تكون حلا لكثير من مشكلاتنا وفسادنا.
في هذا السياق، أعني في سياق الحديث عن الآخر، مهما كان نوع الحديث سلبا أو إيجابا، فإنه مرفوض لأنه يتعارض مع الحالة اللاشعورية للإسقاط النفسي الجمعي، بوصفه أي الحديث، نوعا من أنواع تعرية الحقيقة، وبيان زيفهم وكذبهم فيما يشعرون به ويمارسونه من ذلك الإسقاط، وهذا بلا شك، يتطلب منهم أن يتخلّوا عن كثير مما يشكل عندهم نمط حياة يرونه مريحا جسدا وفكرا وعاطفة.
وباعتبار هذا الآخر، عدوا يريد بهم الشر، فكل ما يصدر عنه ومنه، هو شرّ لا يُؤخذ به، سواء أكان في العلوم أم الإنسانيات أم السياسة أم الدولة أم في أي شأن من شؤون الحياة، فالحديث عن نظريات نشأة الكون والحياة على الأرض مرفوض بالكلية لأنه يدعو إلى الإلحاد والكفر، ونظريات النفس والاجتماع والسياسة مرفوضة بالكلية لأنها تدعو للفساد الأخلاقي والانحلال الأسري ومحاربة الدين، وكل الدراسات التي تقف على قضايا التاريخ والتراث الديني والأدبي مرفوضه بالكلية أيضا، وإن كان أغلبها انطلق من منظور موضوعي بحت، وبمناهج علمية وعقلية.
فكل ما سلف، هو مرفوض غيبا دون أدنى نظر في ما هو مطروح، وذلك لأن المجتمع باعباره متلقيا يعاني من إسقاط نفسي لا واع يحتم عليه رفض كل شيء من الآخر بوصفه عدوا ومتآمرا عليه لتدميره وهلاكه، وأنه السبب الرئيس لحالته التي يعايشها من جهل وتخلف وفساد. وهكذا، يبقى المريض بالإسقاط النفسي في مشكلته ومعاناته لا ينفك عنها ولا يخرج منها، وينصب تفكيره في المشكلة كواقع لا بد منه بعيدا كل البعد عن أي حل. لأن الحل ببساطة شديدة، يحتاج، أولا، إلى الاعتراف بالذنب والتقصير والإهمال الذاتي للشخص والمجتمع، وهذا يتناقض بكل تأكيد مع فكرة الكمال المطلق للمريض بالإسقاط النفسي فردا كان أم جماعة. ويحتاج، ثانيا، إلى جهد وعمل وتفكير ومواجهة التحديات الفكرية والعاطفية والمجتمعية والاقتصادية وغير ذلك؛ مما يدفعهم إلى تغيير نمط حياتهم المريح كما أسلفنا.
ومما يمكن أن نلحظه من الإسقاط الجمعي ما جاء في القرآن الكريم في تخاصم أهل النار، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ* وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿"وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ* فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ* فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ* فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون﴾.
وجلي من الآيات أنّ كل فريق يرمي باللوم على الآخر، وأنه السبب في ضلاله وفساده. ليدفع عن نفسه تهمة التقصير والفساد والجهل، راميا بها في وجه الآخر، كأعذار عن ذنبه، وهي أعذار لا قيمة لها، وقتئذ: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾.
وفي إطار ما سلف، يتضح لنا الاستعمال القرآني لمفردة "الأمة" كأنها فرد وليست جماعة، وذلك لأن الجماعة، تسلك مسلك الفرد الواحد في اعتقاده وتفكيره وانتمائه وعاطفته وسلوكه، فيعاملون معاملة الواحد لا الأفراد؛ أي كيان واحد لا أجزاء، يقول تعالى: ﴿"وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿"وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
نيسان ـ نشر في 2023-11-20 الساعة 13:20
رأي: د. يوسف محمد الكوفحي