اتصل بنا
 

'وما رميت إذ رميت'.. كيف ننظر إلى الحرب؟

نيسان ـ نشر في 2024-12-01 الساعة 12:19

x
نيسان ـ نعيش اليوم واقعاً معلمناً إلى حدٍّ بعيد، اعتدنا فيه صياغة الأمور بما يلائم حصر الدين في المسجد، حتى هذا وُجِّهَ على مدار سنواتٍ ليكونَ على مقاس تعميمات وزارة الأوقاف، ومع صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تفاجأ النظام العالمي بصفعة اخترقت هذا الواقع، وسرعان ما اجتُرّت ديباجة "الإرهاب الإسلامي" استنكاراً لمحاولة استعادة فاعليتنا في هذا العالم.
لقد أعلى "طوفان الأقصى" من استحضار الديني والسياسي بطريقة متداخلة، كما أعاد الاهتمام الواسع بالقضية الفلسطينية، ومعه عاد النقاش حول طبيعة الصراع وأصله ونشأته وإذا ما كان صراعاً دينياً أم صراعاً من أجل التحرّر من الاستعمار فقط.
أرغب هنا بتقديم مقولة أساسية وحولها أدندن، مفادها أن وجود المسلم في العالم هو وجود ديني، والأصل أن يرى الأشياء غير منفصلةٍ عن الدين، فالدين يقدم تصوراً للإنسان والعالم، ومن الدين يستمد المسلم أخلاقه، وبه يربط كل ما حوله، وبطبيعة الحال، كما يرى المسلم وجوده برؤية دينية؛ سيرى صراعه مع المحتل.
هل حربنا دينية؟
لقد أزعجت إعادة استحضار الدين والسياسة بطريقة متداخلة من بعد الطوفان، من ضمن مَن أزعجت، عمّال الثقافة العلمانيين، فتجد منهم من لا يفوّت فرصة للتنويه على أن الموقف المنحاز للقضية لا يعني قبولهم بـ "الإسلام السياسي"، أو أنهم، وإن اتفقوا مع المقاومة، لا يقبلون التصورات الإسلامية للمجتمع، وغير ذلك مما هو مرتبطٌ بشعورهم بتراجع المفهوم العلماني والقومي "للوعي الوطني" و"التحرر".
لكنّ اللحظة التي يخرج فيها صاحبنا العلماني عن طوره، هي التي يُعبَّر فيها عن الرؤية الدينية للصراع، فيهرع في الغالب إلى طريقين: أوّلهما التشغيب على هذا القول باعتباره رجعياً أو غيرَ مدركٍ لحقائق التاريخ ونشأة الصراع و"أن الصهيونية أسّسها ملحدون أصلاً"؛ وآخرهما التستر على حقيقة أن الصراع إنما هو صراع ديني، ثمّ محاولة حجبها، كأن لسان حاله يقول: "لا تفضحنا أمام الأجانب"، فكلمة الصراع الديني تثير حفيظة الوعي الأوروبي، ويكأن تاريخ أوروبا هو تاريخ العالم وعلى الجميع مراعاته!1
أبدأ بالقول إنّ المجاهد الذي ينافح في حواري غزّة وهو يحمل قذيفة "الياسين 105" ليفجّر بها دبابات الاحتلال، أو يحمل بندقية "الغول" ليقنص رؤوس بني صهيون، هو بذلك يجاهد باسم الله، وإن التعبيرات السابقة واللاحقة لكل عملية جهادية، من مثل "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، لا يقولها المجاهد على سبيل البلاغة أو الاستعارة التي نقتات عليها في الجامعات، فلولا يقينه بالله وبأنه يجاهد في سبيله، ما حمل سلاحه ولا جاهد، واستحضار هذه الآية هو مثالٌ على طريقة نظر المجاهد إلى العالم، بل هي عالم المجاهد، فيُشهّد بها وبجهاده الغيب، حين ينظر بعين الآية المسطورة إلى جهاده، إذ ينفي عن نفسه الرمي بالرغم من نسبة الرمي إليه -في الظاهر- كما نسبت الآية "إذ رميت"، ويُرجع أصل النسبة إلى الله كما نسبت الآية أيضاً "ولكن الله رمى"، مستحضراً بذلك أفضال الله عليه ومتزوداً بالمسؤولية ومتحملاً الأمانة، فالمؤمن المجاهد يشتغل بتنزيل العالم الغيبي إلى العالم المشهود، فلا ينحصر نظره في ظواهر الوجود، وإنما يلج إلى الآيات الكامنة وراءها، متصلاً بالعالم الغيبي الذي هو أصل تلك الظواهر.2
وإني لأجد التحرّج عند بعض بني جلدتنا من المقاربة الدينية للصراع نابعٌ من أمرين في الغالب: أحدهما، خضوعٌ لسطوة معايير اللعبة السياسة الحديثة، والآخر تخوفٌ من نتائج هذه المقاربة، والأرجح أنّ الأمرين لا ينفصلان. أما الأمر الأول، فيكفي لرده الإشارة إلى أن عدونا، وهو على الباطل، بات لا يتحرّج من تجاوز حدود معايير اللعبة السياسية ومن الجهر بتديين الصراع، فلماذا نتحرَّج ونحن على الحق؟!
اقرؤوا المزيد: أسياد في الأرض: تكنولوجيا المقاومة التوحيدية
وهذا ينقلني إلى الأمر الثاني، وهو التخوف من نتائج هذه المقاربة، فيدور في رأسي صوت أحدهم وهو يقول: "هذا بالضبط ما نخاف منه؛ العنف الذي ينبع من ميتافيزيقيا الأديان". يا للسخرية المركبة! فهل التحرر من الاستعمار ممكنٌ دون عنف؟ أم أن العنف إذا كان منفصلاً عن الميتافيزيقيا أصبح عنفاً عقلانياً متحضراً؟ وأساساً هل يمكن انفصاله عنها؟ فالإنسان إذا مرق من الدين، ​​مرق إلى دينٍ يخترعه بنفسه.
إن المتخوّف من المقاربة الدينية للصراع إما مؤمن بأسطورة العنف الديني، وهؤلاء جذور مشكلتهم مع الدين وليس في أمر آخر؛ وإما مؤمن بالدين، لكنها سلطة الثقافة الغالبة، وهنا ينبغي التذكر أننا في صراعٍ مع المحتل على الحق، ولا يكون إحقاق الحق إلا بأخلاق هذا الحق، إذن علامَ التخوف؟ وممّن؟ فما رأيناه من مجاهدي الطوفان في السابع من أكتوبر، من دعس رؤوس أهل الباطل، لم يدفعهم إلى التمثيل بهم وبمن أسروا منهم، بل كان العكس تماماً، وما كان ذلك إلا لدينٍ وقر في قلوبهم يأمرهم وينهاهم. فإن استوى الطرفان في تديين الصراع، فلا يستوي أهل الحق وأهل الباطل، والأمرٌ عيانٌ بأخلاق الفريقين.
إن معايير اللعبة السياسية الحديثة، لا شك في أنها تحاول إقصاء الدين من ميدان السياسة، وليست السياسة المجال الوحيد الذي يُراد إقصاء الدين منه، فالإرادة التي تبتغي الانقطاع عن الدين، تبتغي ذلك في كل المجالات العامة، ومع السيولة الشديدة للأخلاق يُراد الانقطاع عنه أيضاً في المجالات الخاصة. لكن السؤال المُلح هنا، من يريد عدم إدخال الدين في السياسة، هل حقاً لا يُدخله؟ أقصد أنه إذا كان الإنسان الديني ينزّل العالم الغيبي إلى العالم المشهود، فإن الإنسان العلماني يرفع أموراً من العالم المشهود إلى رتبة الغيبي،3 بإضفاء التقديس عليها، فتصبح مثلاً الدولة الوطنية وترابها وعلمها بمنزلة المقدّس الجديد، ويصبح النضال في سبيل بناء تلك الدولة.
يبدو أن ممارسة الإنسان للتقديس حتمٌ واجبٌ عليه، لكن يبقى السؤال: ما الذي سيُقدّسه؟ يدفعنا هذا الحديث إلى تأمل هوية الإنسان من حيث هو إنسان، ومن ثم كيف ينظر الإنسان المسلم إلى نفسه وإلى الوجود؟
من هو الإنسان؟
إن العقل هو التحديد السائد والمهيمن في تعريف الإنسان وتمييزه عن الكائنات الأخرى، إذ عُدَّ العقل المعيار الذي يجعل من الإنسان إنساناً، ومع تسيُّد هذا المعيار دخلت البشرية في تنافسٍ أهوج على "العقلانية"، هوسٌ مفرطٌ في عقلنة أفعالنا وأقوالنا، وفي عقلنة الأشياء من حولنا، وكأنها تكتسب المشروعية بالعقل وحده! وعلى الرغم من ذلك، كان الدرس الإنساني يذكّرنا مراراً أنه مهما كان العقل مُهمّاً فإنه وحده لا يكفي. فهل تنفع الذكرى؟
إن حصر تعريف الإنسان بالعقل وحده، بالعقل المجرد عن الأخلاق، قد أنتج الكوارث، والشواهد كثيرة، لكنّ العجيب أن الهوس بالعقل والعقلانية بلغ مرحلةً قصوى في المحاولة الحداثية في تأسيس الأخلاق على العقل وفصلها عن الدين، وربما تكمن في هذه المحاولة أثارةٌ من شعور بحاجة العقل إلى الأخلاق، لكنها لم تنجح بنزع غرور العقل، فظل يموضَع في منزلة المرجع الأول والأخير، وهماً بأنه يستطيع الاكتفاء بنفسه، فكيف حال العقل دون الأخلاق؟! وكيف حال الأخلاق دون الدين؟!
إن الدرجة المتقدمة في الانحطاط التي أوصل بنو صهيون البشريةَ إليها هي بفعل العقلانية المجردة عن الأخلاق، أياً كانت،4 وليس تعجّبنا حولها بتعبيرات من مثل: أنها مجازر غير مفهومة أو لا تُعقل، إلا إشارة إلى حاجة العقل إلى أن يُسدد بالأخلاق، فالمجازر بمعايير العقل المجرد معقولة تمام العقل، بل قد تكون مقتضى العقل! فالعقل حينئذٍ يصبح مرادفاً للقوة، وإذا كان هذا العقل مجرداً عن الأخلاق فكذلك هي قوته، أو قل هكذا هي قوة العقل المجرد عن الأخلاق.
لطالما لفتتني خلال دراستي في الجامعة، التعريفات التي كانت تُعرض على هامش التعريف العقلاني للإنسان، كمحاولات أخرى لتحديد ماهيته، لكنّها لا ترقى في "الجوّ الأكاديمي" إلى درجة التعريف العقلاني، فلم تؤخذ عادةً بجدية في الجامعة التي جئت منها. أحد هذه التعريفات هو "القدرة على التديّن"؛ الإنسان هو القادر على التديّن. وكنت أحدّث نفسي حين أتأمل هذا التعريف: إذا كان الإنسان هو القادر على التديّن فلماذا لا يتديّن؟ أعني إذا كان الذي يجعل من الإنسان إنساناً هو القدرة على التديّن، القدرة وفقط القدرة كفيلة بإعطاء الإنسان شرف الإنسانية، فأيُّ شرفٍ سيحظى به الإنسان إذا مارس القدرة التي تجعل منه إنساناً حسب هذا التعريف؟
يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن، إنّ ما يحدّد الهوية البشرية ليست العقلانية أو ممارسة العقل، وإنما ممارسة الأخلاق أو التخلّق، والفعل العقلي يُقوَّم بالأخلاق لا العكس، وعندها إما أن يرفع هذا الفعل صاحبه إلى الإنسانية أو ينزل به إلى الحيوانية، فالإنسانية عنده تشير إلى امتلاك قوة الأخلاق، لا إلى امتلاك قوة العقل. في الوقت نفسه يقول بأن الإنسانية ما هي إلا مرتبة من مراتب التخلّق، بل هي المرتبة الدنيا في الواقع، والتديّن بحقٍ وحده القادر على رفع الإنسان في مراتب التخلّق والتزكية.5
هذا القول يجعلنا نُقِرُّ بما يجمع الإنسانية من أخلاق مشتركة، والتي تجعل أي إنسان يستنكر ما يخدش هذه الأخلاق، بل إن الإنسانية بذاتها تُحدَّد وتعرّف بالأخلاق، انطلاقاً من أن الإنسانية تشير إلى أمرٍ أخلاقي. ومن هنا لا يُتصور للمسلم أن يكتفي بالمشترك الأخلاقي وألّا يندفع لاستمداد الأخلاق من الدين، ليَعبُر إلى مراتب أعلى من التخلّق، ويُقوِّم به ما دونه، فلا يمكن للأدنى أن يقوِّم الأعلى.
هذا على عكس التصور المهيمن اليوم الذي يسمّى "النزعة الإنسانية" التي تتجلى في منظومة حقوق الإنسان، والتي تُريد للمشترك الأخلاقي -كما تدّعي-6 أن يكون المعيار الأعلى الذي تُقوَّم به أخلاق الدين، فتموضع الإنسانية ذاتها لا كمرتبة دنيا من مراتب الأخلاق وإنما كأعلى مرتبة، وبذلك تكتفي بذاتها وتستغني عن الله والدين، فضلاً عن وهم تصور أن مصدر الأخلاق المشتركة بين البشر هو الاصطلاح البشري أو العقل بذاته. لكن مرةً أخرى، كيف يُتصور المسلم دون أن يستمد أخلاقه من دينه؟!
أن تنظر إلى العالم كمسلم
يقدّم الإسلام تصوراً للعقل أوسع من التصور العقلاني السائد، وذلك بوَصْلِ العقل بالوحي، فالعقل دائماً لا بد له من مادةٍ عقلية يعقلها، ومادة العقل للمسلم ترتبط بالوحي، وبهذا يُسدد العقل ويتخلّق ويتسع لآفاقٍ غير محدودة. كما يقدّم الإسلام تصوراً للإنسان والعالم ويحدد غاية الوجود، ويجعل من الإيمان والكفر معياراً واضحاً للتمايز بين الناس،7 وتتخلل أخلاق الإسلام تلك التصورات جميعاً.
اقرؤوا المزيد: إسلام المستشرقين وإسلام المجاهدين.. لماذا لا يمكنهم فهمنا؟
فإذا اتخذ المرء الإسلام ديناً كان حريّاً به متابعته في أموره كلها، وحينها يبدو استمداد الأخلاق من الدين أمراً بدهياً، كما هي بداهة رؤية الوجود رؤيةً دينية، فهو يعيش في العالم كمسلم، بكليته، أو هذا ما ينبغي أن يكون، فالتديّن هو طريقة تحقيق المسلم لذاته في الوجود "بحيث يوجد المسلم في الدين وجودَه في العالم؛ بل لا عالم للمسلم غير دينه"،8 وعلى هذا فمن الطبيعي أن يرى المسلم قضاياه، السياسية وغيرها، برؤية غير منفصلة عن دينه، ويسلُك وفق ذلك.
بكلمات أخرى، إن رؤية القضايا والصراعات من حولنا، وتحديداً القضية الفلسطينية، برؤية دينية أو فلنقل برؤية غير منفصلة عن الدين، هو بمثابة فرع لأصل، والأصل أن يرى المسلم العالم رؤية دينية، فوجوده في العالم هو وجودٌ ديني، وعليه ستكون هذه الرؤية الدينية للوجود نسقاً تتحرك داخله قضايا العالم بالنسبة للمسلم. هذا الأساس الذي يجب أن ننطلق منه في فهم الأمور، لا أن نخضع لإكراهات العصر أو ضغوط الأطراف الأخرى في صراعاتنا في هذا العالم.
الغافل المحروم
على الرغم من أن عملية طوفان الأقصى اخترقت معايير اللعبة السياسية الحديثة وأعادت التنبيه إلى ذروة سنام الدين، إلا أن الخطاب السياسي المقاوم لا يزال يتدافع في حدود تلك المعايير، ويحاول أن يعبُرها، وربما حالة الفصام في "مشروعنا التحرري" منذ زمن هي إحدى روافد الفجوة بين العمل المُقاوم وبين الخطاب السياسي الذي يمثّله.
ومثلما يحاول السياسي الحق اليوم أن يلحق بركب المجاهد على الأرض ليكون مجاهداً من ثغره وبأدواته، ساعياً إلى ردم الهوة بين الديني ومجالات الحياة، وبين السياسي والعسكري، وبين غيرها من الانفصالات في الواقع، علينا، وكلٌ في موقعه ومما يحسنه، أن نحوّل هذه المواقع إلى ثغور نرابط فيها، نُخلّقها ونخلّق أنفسنا فيها. ولا شك في أن مراكز الثقافة، من مؤسسات تعليم جامعي وغيرها، أحوج ما تكون إلى هذا التخليق، وأحوج ما تكون إلى المعاني الإيمانية، ومن ثم إلى تحويل هذه المعاني إلى أدوات تحليلية ونقدية، فهذا هو مشروع نزع استعمارية المعرفة الحقيقي.
إن التديّن تخليقٌ للنفس وربطٌ للذات بالمعاني الأصلية للوجود، وإذا صحَّ القول عن كمالٍ للتديّن في زماننا، فقد رأيناه في غزة، وألهم العالم، وجلّى آفاقاً ليست كالآفاق... والغافل عن هذا محروم.

نيسان ـ نشر في 2024-12-01 الساعة 12:19

الكلمات الأكثر بحثاً