اتصل بنا
 

تحسبهم جميعاً: تصدعات 'إسرائيل' بمعول الطوفان

نيسان ـ نشر في 2025-02-05 الساعة 12:33

x
نيسان ـ

كشفت معركة طوفان الأقصى عن واقع زاخر بالتوترات الداخلية في "إسرائيل"، خلافًا لما تعكسه قوتها العسكرية الظاهرة من تماسك، مما أدى إلى انقسامات اجتماعية وسياسية باتت تهدد الهوية الوطنية لـ "إسرائيل"، ومستقبل العلاقة بين مختلف مكوناتها، سواء بين الصهيونية الدينية وتصاعدها الرامي إلى السيطرة على مفاصل الكيان وبقايا اليسار الإسرائيلي (الجيل المؤسس) أو بين الفئات الدينية والعلمانية، الأمر الذي ينبئ بأزمات جديدة سيواجهها الاحتلال متمثلة في تصاعد عدم الثقة بالمؤسسات الحكومية، وزيادة التباينات في المواقف إزاء القضايا الأمنية والاجتماعية، كما تثير تساؤلات عن قدرة المجتمع الإسرائيلي على التعافي ومواجهة أزمات المستقبل حتى بعد نهاية هذه الحرب.

ففي دراسة نُشرت في مجلة تيلم1بعنوان "حرب أهلية بالوكالة"، تناول الباحث الإسرائيلي "أوري توفيل"2ما تشهده "إسرائيل" من صراع داخلي تطور ليصبح أكثر من مجرد نزاع سياسي تقليدي، وأخذ يتسم بالعنف غير المباشر، إذ تجادل الدراسة بأن الصراع الداخلي بات يستخدم تداعيات الهجمات الخارجية، مثل هجوم المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فتسلل إلى قلب الصراع السياسي الداخلي، وتحول إلى معركة على الموارد والسلطة. ولأول مرة، تواجه "إسرائيل" صراعًا سياسيًا بين معسكراتها في أثناء خوضها حربًا خارجية، ما زاد من تعقيد المشهد الداخلي وزعزع استقرار السلطة.

هل يهدد الصراع الداخلي وجود "إسرائيل" فعلًا؟ وإلى أي مدى؟ وأين أخفقت الدراسة وأين نجحت؟ وكيف بالغ توفيل أحيانًا وما الذي تجاهله؟ وما الجديد الذي تكشفه هذه الدراسة؟ وغيرها من الأسئلة يجيب عنها هذا المقال من خلال ترجمة تقدم عرضًا مُلخصًا لدراسة توفيل، ويناقش المقال ما ورد فيها من خلال دراسات ومقالات إسرائيلية أخرى تناولت الصراع الداخلي الإسرائيلي.

نتنياهو رسولًا جديدًا للصهيونية

يوجد في "إسرائيل" معسكران رئيسيان: "معسكر الحكومة" و"معسكر المعارضة"، إلا أن هذا التصنيف لا يُعبر بدقة عن عمق النزاع القائم، حسب الدراسة. فالقضية تتجاوز مجرد التنافس على السلطة، لتشمل فجوة واسعة تمتد إلى القيم الأساسية، والاختلافات الطبقية، والجغرافيا، وحتى الهوية الثقافية التي تُعمق الانقسام بين الجانبين.

حول الطرفان المشهد السياسي في "إسرائيل" إلى ساحة صراع عميق بين معسكرين متنافرين يعكسان رؤى متباينة لطبيعة الدولة ومستقبلها. من جهة، يقف معسكر الحكومة السلطوي الذي يستند إلى ثيوقراطية متأصلة، متجسدًا في شخصية بنيامين نتنياهو، الذي يتبنى تصوّرًا لنفسه قائدًا فوق القانون، لا تُقيّده معايير الحوكمة التقليدية. منذ بداية التحقيقات الجنائية التي طالته عام 2016، أبدى نتنياهو رفضًا صارمًا لأي مساءلة قانونية، مُروّجًا سردية تُصوّر تلك الإجراءات أنها محاولة "انقلابية" تستهدف الديمقراطية ذاتها. هذه الرؤية بلغت ذروتها مع ولايته الأخيرة، واتهامه المساءلة القانونية بـ "الانقلاب القضائي"، وهو مشروع يهدف إلى تقليص نفوذ السلطة القضائية وإعلاء شأن السلطة التنفيذية بما يضمن تحصينه من المحاسبة.

يعتمد هذا التوجه على قاعدة شعبية قوية من أنصار الائتلاف الحاكم، الذين يُسبغون على نتنياهو هالة استثنائية تكاد ترتقي إلى مستوى القداسة. إذ يرى بعض المتشددين فيه شخصية مختارة إلهيًا، ما يعزز تحالفه مع المؤسسة الدينية الأرثوذكسية التي تطمح إلى فرض رؤية ثيوقراطية تشمل التفوق اليهودي، والسيادة المطلقة على الأراضي، وجعل دراسة التوراة أساسًا للحكم. وهكذا، يصبح نتنياهو رمزًا دينيًا وقوميًا تتقاطع عنده المصالح الدينية والسياسية.

في المقابل، يقف معسكر الجمهوريين صاحب التعددية الأيديولوجية المتراوحة بين اليمين واليسار، والتي تشمل متدينين وعلمانيين، يهودًا وعربًا - وفق الدراسة - رغم خلافاتهم العميقة في قضايا متعددة، يتفقون على أن الديمقراطية الليبرالية، التي تقيد سلطة الحكومة وتضمن الحقوق الفردية، هي النموذج الأنسب لـ "إسرائيل". ويرون في الديمقراطية سبيلًا لتحقيق الحرية الشخصية، والاستقرار السياسي، والنمو الاقتصادي، وإدارة مجتمع متعدد ومتناقض بصورة مرنة.

يُعبّر هذا الانقسام عن تحول جوهري في المشهد السياسي الإسرائيلي، حيث تتداخل الخطوط القديمة مثل اليمين واليسار، والمتدينين والعلمانيين، مع انقسام أعمق بين السلطوية والجمهورية. وقد أدى هذا الصراع إلى حالة مزمنة من عدم الاستقرار السياسي تمثلت في خمس جولات انتخابية خلال أقل من أربع سنوات.لكن مع هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تصاعدت حدة التوترات الداخلية، وقد شكّل الهجوم أداة جديدة في النزاع الداخلي الإسرائيلي، إذ استغلّت الأطراف المتصارعة الحدث لتعزيز مواقفها وإعادة ترتيب أولوياتها السياسية والاجتماعية، مما زاد المشهد تعقيدًا وتوترًا. وبذلك، أضحى هذا الانقسام معركة وجودية على طبيعة الدولة ومستقبلها. تتشابك فيها القيم الدينية والهويات الثقافية مع المصالح السياسية، في مشهد ينذر بمزيد من التصعيد والانقسام، ويضع الأسئلة الكبرى بشأن مستقبل الديمقراطية والإجماع الوطني على المحك.

ولكن ما قدمته الدراسة عن المعارضة الإسرائيلية يبدو فيه شيء من التهويل أو الافتقار إلى الدقة في تصوير الواقع. وهو ما يُشير إليه ميخائيل هاوزر طوف في مقال كتبه بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في 4 أيلول/ سبتمبر 2024، عن أسباب ضعف معسكر المعارضة الذي يعاني من هشاشة ملحوظة نتيجة غياب التماسك الداخلي، وتصاعد الصراعات القيادية، وافتقاره إلى خطة استراتيجية متماسكة لمواجهة الحكومة.

وعلى عكس المعارضة السابقة بقيادة نتنياهو، التي اشتهرت بنهجها الهجومي وقدرتها على إحراج الحكومة، تبدو المعارضة الحالية عاجزة عن تقديم بديل فعّال بسبب الانقسامات الحادة بين قادتها، خاصة بين رئيس "المعسكر الرسمي" المعارض بيني غانتس ورئس المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، إضافة إلى تبني بعض أعضائها نهجًا "رسميًا" أقل تصادمية. هذا القصور منح حكومة نتنياهو فرصة سانحة للعمل بحرية، مستفيدة من تشتت المعارضة لتمرير تشريعاتها بسلاسة، مما يعزز استقرارها ويضعف التأثير السياسي للمعارضة عموما3.

حرب أهلية.. أكثر من السياسة وأبعد من السلطة

قامت "إسرائيل" على مجموعة من الصدوع البنيوية العميقة التي لم تلتئم، بل تتسع بمرور الزمن. وفي كل حدث سياسي أو اجتماعي، تتجلى هشاشة هذه الصدوع التي تُعتبر خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها من دون تهديد وجود الكيان نفسه. من أبرز هذه الصدوع: الصراع العربي - اليهودي، والانقسام بين العلمانيين والمتدينين، والفجوة الثقافية بين الشرقيين والغربيين، والانشقاق السياسي بين اليمين واليسار. أي محاولة لإعادة تعريف هذه التناقضات قد تُفضي إلى زعزعة أسس الكيان وهويته السياسية والاجتماعية.

تشير دراسة توفيل إلى أن الصراع الداخلي في "إسرائيل" تجاوز الشكل، إذ لا يقتصر على التنافس الديمقراطي للسيطرة على مؤسسات الدولة، بل يتخذ طابعًا أشبه بحرب أهلية غير مباشرة. في هذا السياق، تتحول الهجمات الخارجية، مثل هجوم 7 أكتوبر، إلى أدوات لتأجيج النزاعات الداخلية. تستخدم هذه الديناميكيات لتبرير سياسات التهميش، وإعادة توزيع الموارد، وتشجيع الهجرة من بعض الفئات، ما يُضعف سيطرة المعسكرات المعارضة.

خلال معركة الطوفان، صعّدت الحكومة الإسرائيلية من تهميشها لمنتقديها، بما في ذلك رؤساء السلطات المحلية في شمال "إسرائيل" وأهالي الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، فتُعامل أي احتجاجات منهم باعتبارها معارضة تهدد سلطتها. في الوقت ذاته، استغلت الحكومة هجوم 7 أكتوبر، أداة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، بما في ذلك سحق المعارضة، وتشجيع هجرة معارضيها، وإعادة توزيع الموارد لدعم معسكرها. هذا النهج يُظهر كيف يجري تحويل التحديات الأمنية الخارجية إلى وسيلة لتعزيز السيطرة الداخلية وتقويض الخصوم السياسيين.

انعكس الصراع بين الحكومة الإسرائيلية ومعارضيها بتجاهل الأولى "المجتمعات المتضررة"4، وغياب المسؤولين الحكوميين عن جنازات القتلى الإسرائيليين، والبطء في إعادة بناء المستوطنات، وتسليح أنصار الحكومة بطرق غير قانونية، فضلًا عن إنشاء ميليشيات سياسية توحي بالاستعداد لصراعات أهلية مباشرة. وعلى الرغم من أن الحرب أوقفت مؤقتًا الإصلاحات القضائية، فإن ذلك كشف عن هشاشة الحكومة على المدى الطويل.

تمكنت الحكومة الإسرائيلية خلال فترة الحرب من تمرير جملة من القوانين الداخلية مستغلة حالة الطوارئ والتوتر العام لتقليل رقابة المعارضة والجمهور. هذه القوانين، التي تتسم بطابع حساس وتأثير عميق على التوازنات الداخلية، لو طُرحت في ظروف عادية لكانت قد أثارت جدلًا واسعًا وضجة سياسية كبيرة نظرًا إلى تداعياتها على توزيع السلطة والبنية السياسية. كذلك،بررتسكرتارية الحكومة غياب الوزراء عن جنازات الجنود بأنها نتيجة حالة الحرب، إذ تُقام مئات الجنازات. إلا أن هذا التبرير يعكس سياسة منهجية لتهميش "المجتمعات المتضررة" واحتواء الأصوات المعارضة.

وفي سياق تعزيز السلطة في يد اليمين الحاكم، وافقت الحكومة على إنشاء "الحرس الوطني" تحت إشراف إيتمار بن غفير، رغم معارضة المستشارة القضائية للحكومة. هذا الكيان الجديد يعكس رغبة واضحة في استخدام أدوات أمنية لتعزيز السيطرة السياسية، مستغلين التخفيض بنسبة 1.5% من ميزانية الدولةلتوفير التمويل.

انعكس ذلك جليًاباقتحاممستوطنين بمشاركة شخصيات سياسية بارزة في اليمين قاعدتي "سديه تيمان" و"بيت ليد"، وقد جسّد ذلك تصاعد النفوذ المتطرف المرتبط بالتيار الصهيوني الديني، الذي يتحدى المؤسسات العسكرية وسياسات الدولة لتحقيق أهدافه.

وفي سياق متصل، لا يمكن تجاهل قضية تسليح المستوطنين في الضفة الغربية، إذ شهدت الفترة (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 - كانون الثاني/ يناير 2024) تصاعدًا كبيرًا في عمليات تسليح المستوطنين من قبل الجيش الذي وزع عليهم أكثر من 7 آلاف قطعة سلاح، ما يعكس تحولًا جوهريًا في دور الدولة تجاه الفاعلين غير الرسميين في إطار المشروع الاستيطاني. هذه الخطوة، التي تخضع لتوصيات مسؤولي الأمن المحليين وموافقة الجهات الأمنية بما في ذلك جهاز الشاباك، تتطلب تدريبًا تقنيًا محددًا. وبهذا، يصبح امتلاك السلاح امتيازًا خاصًا يُمنح للمستوطنين وفق شروط تُحددها السلطة القائمة، مما يعكس تغيّرًا في موازين القوة داخل الفضاء الاستيطاني.

إسرائيل: من الجمهورية إلى المملكة

ترى الدراسة أنه في خضم التصعيد المستمر بين المعسكرين داخل "إسرائيل"، يُظهر هجوم 7 أكتوبر على كيبوتسات غلاف قطاع غزة مثالًا حيًا على إمكانية تحول النزاع إلى تدمير متعمد لبعض المجتمعات داخل "إسرائيل". فقد أسفر الهجوم عن تدمير 14 كيبوتس تقريبًا، ومع ذلك، وبعد مرور عام كامل، ما تزال جهود إعادة البناء في مراحلها الأولية، وسط تجاهل حكومي إسرائيلي لهذه الكيبوتسات.

وفي كانون الثاني/ يناير 2024، نظم "التحالف السلطوي - الثيوقراطي" مؤتمر "النصر" بقيادة حركة "نحالا"، للمطالبة بتعزيز مشاريع استيطانية جديدة في قطاع غزة، بمشاركة 11 وزيرًا و15 عضوًا من الكنيست. تُظهر هذه السياسات أولويات الحكومة التي تفضل توجيه الموارد نحو مشاريع استيطانية تنافس الكيبوتسات المتضررة، بدلًا من إعادة إعمارها. وتقول الدراسة إن الحكومة تستغل الدمار العنيف الذي لحق بالمعسكر المعارض، لتحويل موارد تقدر بعشرات المليارات من الشواقل، من المعسكر الذي أسس جمهورية "إسرائيل" إلى المعسكر الذي سيؤسس مملكة "إسرائيل".

في حينكشفتصحيفة "كالكاليست" أن تكلفة إصلاح الأضرار الناجمة عن هجوم 7 أكتوبر تُقدر بنحو ملياري شيقل، وذلك لإعادة بناء 1700 منزل متضرر. ومن المتوقع أن تتطلب عملية إعادة الإعمار هدم ما بين 15 و200 منزل بالكامل، مع تخصيص نحو 300 مليون شيكل لإعادة إعمار كيبوتس "بئيري" وحده. إضافة إلى ذلك، بلغت تكلفة إجلاء السكان المتضررين نحو 2.4 مليار شيقل، شملت نفقات الإقامة المؤقتة في الفنادق ودعم الأسر التي لجأت إلى أقاربها.

وفي السياق ذاته، أشارتقريرلصحيفة "دافار" بتاريخ 11 آب/ أغسطس 2024 إلى تأخير الحكومة تحويل ميزانية بقيمة 5 مليارات شيقل، كانت مخصصة لإعادة تأهيل المناطق المحاذية لغزة، وذلك بسبب ما وصفته بالتعقيدات الإدارية والبيروقراطية، إذ يُتوقع صرف الميزانية بحلول يناير 2025. وقد أثار هذا التأخير انتقادات إسرائيلية حادة، مسلطًا الضوء على ضعف استجابة الحكومة للأزمات ومدى فاعلية إدارتها للموارد الوطنية في التعامل مع الكوارث.

تيار واحد.. أيديولوجيا واحدة

تصاعدت ظاهرة الهجرة من "إسرائيل" منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ما كان له تداعيات سياسية وأيديولوجية، حسب الدراسة. ورغم أن هذه الظاهرة لم تحظَ بدراسة كافية أو اهتمام حكومي يُذكر، فإن الارتفاع في أعداد المهاجرين يمثل تهديدًا داخليًا، خاصة بالنسبة إلى التيار الجمهوري في "إسرائيل". ويوضح الباحث أن بعض العائلات المنتمية إلى هذا التيار بدأت مغادرة "إسرائيل" بسبب التوترات السياسية والاجتماعية المتزايدة، وهو ما يمكن أن يُحدث تغييرات جذرية في التوازنات السياسية، لصالح الجماعات الأكثر دينية وسلطوية.

وترتبط الهجرة الداخلية بالتوترات السياسية المتفاقمة، التي تُغذيها الحروب الأيديولوجية بين الأحزاب والنخب المختلفة. يبرز الكاتب تصريحات مثيرة للجدل، مثل تصريح يانون مِغال الذي وصف "التيار الجمهوري" بأنه عنصر دخيل يجب مغادرته البلاد، ما يعكس الصراع العميق بين التيارات العلمانية والدينية في "إسرائيل".

اقرؤوا المزيد:هل انتهت "الديمقراطيّة الإسرائيليّة"؟

وقد نشر موقع "ذي ماركر" الإسرائيليتقريرًافي 31 كانون الأول/ ديسمبر 2024، كشف عن ارتفاع كبير في معدلات الهجرة من "إسرائيل" خلال العام. وفقًا للتقرير، غادر نحو 83 ألف إسرائيلي في 2024، بينما عاد إليها فقط 24 ألف شخص، ما أسفر عن عجز صافٍ في الهجرة بلغ 18.2 ألف شخص. وشهدت الهجرة الجديدة إلى "إسرائيل" أيضًا انخفاضًا ملحوظًا، إذ بلغ عدد المهاجرين الجدد حوالي 32.8 ألف شخص، بانخفاض 15 ألفًا عن العام السابق. في الوقت ذاته، سُجلت إضافة نحو 7.900 شخص إلى السكان من خلال عمليات لمّ شمل العائلات.

هذا التحول الديموغرافي يعكس عمق الأزمة السياسية والاجتماعية في "إسرائيل"، وقد أصبحت الهجرة وسيلة للتعبير عن انعدام الثقة في قدرة الدولة على معالجة التحديات الداخلية المتزايدة. وتؤكد هذه البيانات أن استمرار هذه الظاهرة سيؤدي إلى تأثيرات بعيدة المدى على الخريطة السياسية، ستعيد تشكيل ميزان القوى بين التيارات المختلفة.

السلام الداخلي.. حلم بعيد

تُبرز الدراسة التأثير المتزايد للصراع الداخلي في "إسرائيل" على الأمن القومي، في ظل تصاعد التهديدات الخارجية الناجمة عن الحرب مع المقاومة الفلسطينية. وتناقش كيفية استغلال الحكومة الحالية الهجوم ذريعة للتغطية على صراع داخلي متفاقم بين التيارات المختلفة، ما يجعل من الصعب الفصل بين الأزمات الداخلية والتهديدات الخارجية. وتشير الدراسة إلى أن توسيع الهجوم على قطاع غزة يساعد الحكومة الإسرائيلية مؤقتًا في صرف الانتباه عن أزماتها الداخلية، إلا أن هذا النهج يؤدي إلى زيادة الاستقطاب الداخلي وتراجع الثقة بالمؤسسات الرسمية، إذ تُلقي الأطراف المختلفة باللوم بعضها على بعض.

وقد حذرتدراسةلـ "معهد الأمن القومي الإسرائيلي"، من أن "إسرائيل" تواجه أزمة داخلية غير مسبوقة تُفاقم من التحديات الأمنية والاقتصادية. وتُظهر الدراسة أن غياب التوافق الوطني بشأن "الإصلاح القضائي"، الذي يُعدّ تحولًا جذريًا مثيرًا للجدل، تسبب في تصاعد الاحتجاجات الشعبية وأثر سلبًا على جميع القطاعات، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي. وأشار المعهد إلى أن تآكل التماسك الاجتماعي يُمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، إذ انعكس هذا التآكل على الجيش الإسرائيلي وأضعف قدرته على التعامل مع التحديات الاستراتيجية المتزايدة.

آلاف من الإسرائيليين يشاركون في تظاهرة شهدتها تل أبيب، ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته ضد قرارهما بالتراجع عن اتفاق وقف إطلاق النار مع المقاومة، في 1أيلول/ سبتمبر 2024. (تصوير: مصطفى الخاروف/الأناضول)

ووفقًالاستطلاعأجراه "معهد الأمن القومي" نهاية عام 2024، فإن مستوى الثقة بالمؤسسات الإسرائيلية يشهد تفاوتًا ملحوظًا. وقد حافظ الجيش الإسرائيلي على مستوى عالٍ من الثقة بنسبة 74.5%، مع تفوق كبير بين اليهود (85%) مقارنة بالعرب (34%). ومع ذلك، انخفضت الثقة برئيس الأركان بنسبة 5% لتصل إلى 46%. في المقابل، شهدت القوات الجوية وجهاز الاستخبارات زيادات في مستوى الثقة بلغت 7% و10% على التوالي. أما الحكومة الإسرائيلية، فقد سجلت أدنى مستويات الثقة بنسبة 22% فقط، ما يُشير إلى فقدان الإسرائيليين ثقتهم بالقيادة السياسية.

يختتم توفيل دراسته بتأكيد أهمية تحقيق "سلام داخلي" لتجنب خطر تعميق الانقسامات والصراعات داخل المجتمع الإسرائيلي. ويرى أن استمرار التوترات الداخلية قد يُفضي إلى كارثة مماثلة لهجوم 7 أكتوبر، مع عواقب أكثر فتكًا بالمجتمع الإسرائيلي. تلك العواقب لن تقتصر على مواجهة حماس، بل ستتفاقم بسبب التوترات الأيديولوجية المتصاعدة.

غير أن الواقع يشير إلى أن هذه الانقسامات تتسع بشكل متسارع، وأن "إسرائيل" قد تشهد مواجهة داخلية حادة بعد انتهاء الحرب على غزة، خاصة مع انطلاق أول لجنة تحقيق في أحداث 7 أكتوبر. يبدو أن الصراع الداخلي لم يعد مجرد احتمال، بل بات يلوح في الأفق، ومن الممكن أن يُعيد رسم المشهد السياسي والاجتماعي في "إسرائيل" بصورة غير مسبوقة.


نيسان ـ نشر في 2025-02-05 الساعة 12:33

الكلمات الأكثر بحثاً