اتصل بنا
 

الاكل ليس للشبع بل من اجل البقاء على قيد الحياة فقط

نيسان ـ نشر في 2025-04-24 الساعة 14:17

x
نيسان ـ في رائحة الخبز المحترق المتسلّلة من تنور بدائي، وبين لهب يتراقص فوق قدرٍ صغير من العدس، تتجلى ملامح حياة تحاول النجاة من الموت.
في غزة، لا تعني المائدة دفئًا عائليًا أو تنوّعًا في الأطباق، بل هي طقس يومي محفوف بالخطر، تتقدمه نداءات البقاء، لا طقوس الشبع.
وسط ركام منزلها المدمر في حي الزيتون، تجلس أم فادي قرب موقدة صنعتها من حجارة وأسياخ حديد، تغلي عدسًا فوق الحطب.
بنبرة أنهكها الجوع، تقول: “هذا العدس هو كل شيء، نفطر عليه ونتغدى ونتعشى، الأرز مفقود، الطحين انقطع، حتى الزيت لم نره منذ أسابيع، أحياناً نطبخ أعشابًا نلتقطها بين الركام. لم نعد نختار، نحن فقط نأكل لنعيش”.
أصبحت غزة اليوم مرادفًا للجوع المحاصر، حيث تحوّلت المائدة إلى جبهة أخرى في حرب لا تفرّق بين مقاتل وطفل، بين جندي وربّة منزل، فالغذاء لم يعد متوفّرًا إلا بنِسَب ضئيلة، والمساعدات توقّفت منذ أسابيع بعد إغلاق المعابر من قِبل سلطات الاحتلال، فيما أكّدت منظمات أممية، بينها برنامج الأغذية العالمي، أن المخازن في القطاع قد نُهِبت أو فرغت بالكامل.
في مركز إيواء مزدحم في خان يونس، جلس أبو عمار يحاول تهدئة أطفاله السبعة، يقول بصوت يختلط فيه الألم بالسخرية: “أقسم الرغيف بينهم سبع حصص، وأغلي ماءً وأضع فيه بصلة – إذا توفرت – بس عشان الأولاد يحسوا إنه في شي عالنار. الجوع صار طقس يومي، نتأقلم معه أكثر مما نحاربه”.
في غزة، كل طبق بات مرآة لوضع كارثي، لم تعد الموائد تعرف طعم الفاكهة أو رائحة الخضار الطازجة، الطعام هنا يقتصر على المعلبات القديمة، الحمص المجفف، العدس المطحون، أو خبز من طحين منتهي الصلاحية. ومع ذلك، تعتبر هذه الوجبات “ترفًا” لا يناله الجميع.
تقول الطفلة سلمى، وعمرها لا يتجاوز العشر سنوات: “ماما كانت تجيب لي شوكولاتة كل جمعة، الحين ما بدي شوكولاتة، بس بدي خبز مش محروق، خبز طري زي قبل”.
أما محمود، طالب جامعي من حي الشجاعية، فتحوّل من مقاعد المحاضرات إلى مهمات تأمين الطعام لعائلته.
يقول: “أجمع بقايا الخشب من البيوت المهدومة علشان أطبخ، كل وجبة بجهزها كأنها تحدي. رائحة الحطب تحرق صدورنا، بس ما في حل غيره، كل صحن عدس اليوم هو صرخة في وجه الموت والحصار”.
النساء في غزة أصبحن خبيرات في الطبخ بلا مقادير، يصنعن الخبز من الشعير أو بقايا الحبوب، يطهون بما توفر، ويشاركن الطعام بين العائلات في صورة من صور التضامن الشعبي التي باتت تشكل آخر خطوط الدفاع أمام المجاعة.
الأمم المتحدة وصفت الوضع في غزة بأنه على شفا “كارثة إنسانية شاملة”، مؤكدة أن انهيار الأمن الغذائي أصبح قاب قوسين أو أدنى.
ومع انتهاء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، وعودة الحصار الخانق منذ مطلع مارس، أصبحت غزة منطقة مغلقة، لا يدخلها دواء ولا دقيق، ولا حتى الأمل.
الغارات لا تفرّق بين فرن وموقع عسكري، قصفت مخابز، دُمِّرت شاحنات مساعدات، وأصبح إعداد الطعام مغامرة قد تنتهي بالدم بدل الوجبة، ومع ذلك، تبقى النار مشتعلة، والقدور على النار، والناس – رغم كل شيء – يجتمعون حول وجبة، ليست من أجل الشبع، بل من أجل أن يتذكّروا أنهم أحياء.
فكل لقمة تُؤكل هنا، وكل صحن يُقسم بين الأهل والجيران، هو شهادة حياة، ودليل على أن هذا الشعب، رغم الجوع والدمار، لا يزال يرفض أن يُمحى.

المركز الفلسطيني للإعلام

نيسان ـ نشر في 2025-04-24 الساعة 14:17

الكلمات الأكثر بحثاً