اتصل بنا
 

الاستهواد.. والمعرفة المفقودة!

وزير أردني سابق، باحث ومتخصص في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في العالم العربي. من كتبه "السلفيون والربيع العربي"و" الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"و "الحل الإسلامي في الأردن" و"الإسلاميون والدين والثورة في سورية".

نيسان ـ نشر في 2025-05-28 الساعة 09:11

نيسان ـ حظيت محاضرة د. فوزي البدوي، أستاذ مقارنة الأديان في جامعة منوبة بتونس (التي عقدها معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع منتدى الحموري للتنمية الثقافية قبل أيامٍ قليلة) باهتمام كبير في الأوساط السياسية والفكرية الأردنية، بخاصة لدى جيل الشباب، الذي كان واضحاً أنّه مهتم كثيراً بفهم طبيعة التغيرات والتحولات التي تجري في داخل «إسرائيل»، بل طبيعة هذه الدولة والخلفيات الدينية والأيديولوجية التي تقوم عليها، وتستند إليها.
الدكتور البدوي تحدّث بإسهاب وإبداع عن الجذور التوراتية والدينية للحركة الصهيونية وعن حجم التقاطع الكبير بين الصهيونية الدينية والحركة الإنجيلية في أوروبا والغرب، متحدثّاً ومفصلاً في المدارس الفكرية والاستراتيجية المتنازعة هناك، مع الإشارة إلى أنّ الاتجاه العام في إسرائيل اليوم يسير نحو اليمين المتطرف الديني، وأنّ الأمل بعودة اليسار والعلمانيين واستعادة حضورهم بصورة كبيرة في المشهد الإسرائيلي هو أمل محدود جداً وبعيد المنال.
من أهم ما قاله المحاضر هو أنّ أكثر من فهم هجوم السابع من اكتوبر وأبعاده هو بنيامين نتنياهو، الذي رأى منذ البداية أنّ ما حدث يمثل خطراً وجودياً على إسرائيل، بالرغم من اختلاف أو اختلال موازين القوى، لأنّ أخطر ما فيه هو صورة إسرائيل التي انهارت في الداخل وفي الخارج، وهي الصورة التي تمثّل، بالنسبة للإسرائيليين، السلاح الأكثر قوة من السلاح النووي ذاته (والتشبيه هنا لكاتب هذه السطور)، معرّجاً المحاضر على مفهوم «القلعة» في الحركة الصهيونية كمفهوم بنيوي أساسي ورئيس في العقلية اليهودية متجذّر فيها.
كما أشار الدكتور بدوي في مَعرِض حديثه عن الحاخامات الأكثر تأثيرًا على الحركة الصهيونية إلى أن العرب والمسلمين لم يعطوا أحد أبرز الشخصيات الدينية التاريخية اليهودية اهتمامًا مطلقًا، ولم يترجم له أي عمل مطلقًا، وهو الرِبّي «أبراهام يهودا كوك»، وقال بدوي إننا إذا أردنا أن نفهم إسرائيل الحالية، علينا أن نفهم أعمال هذا الربّي الدينية. ومن أهم ما قام به «كوك» هو تأسيس «مركاز عاراف» في القدس، أي مركز الرِبّي الكبير، وهو ما قام به سابقًا الحاخام يوحنان بن زاكاي5 أثناء حُكم الرومان حين تم تهريبه في تابوت خارج القدس إلى شمال فلسطين وأسس مدرسة دينية أنتجت ما يُعرف بنص المشناة.
لو تجاوزنا كثيراً مما جاء في المحاضرة الثرية والغنية، فإنّ الصدمة التي تصاب بها – فعلاً- هي ما قاله عن حجم الضعف والتسطيح في المعرفة العربية عن اليهود أو حتى عن إسرائيل والصهيونية اليوم، بالرغم من كل هذه الحروب والتهديد الذي تشكله إسرائيل، والذي يأخذ اليوم منعطفاً أكبر وأخطر مما سبق. ذكر الدكتور بدوي أن العرب توقفوا عن دراسة اليهودية منذ القرن الخامس للهجرة، ولم ينتج العرب أي كتاب يتعلق باليهودية منذ وفاة ابن حزم الأندلسي، وفي القرن السادس عشر ظهرت نصوص مكررة وباهتة لما كتبه المسلمون في القرن الخامس، أي توقف فهم العرب المسلمون لليهودية عند ذلك التاريخ، إلى أن أفاق العرب على صدمة القرنين التاسع عشر والعشرين التي تمثلت باحتلال فلسطين، ولم يجدوا حين بحثوا في التاريخ ما يدلهم على فهم المحتل الجديد.
ذلك يقودنا إلى بيت القصيد وهو أنّنا اليوم معنيون في العالم العربي، وفي الأردن وفلسطين تحديداً، بالاهتمام بدرجة أكبر بفهم الحركة الصهيونية والأبعاد التوراتية والتلمودية والدينية عموماً في الدولة الإسرائيلية، وهو شرط رئيس وأساسي لكنه غائب ومفقود في صناعة السياسة العربية تجاه إسرائيل، وهو ما دعا الدكتور البدوي إلى ما أطلق عليه دراسات علم الاستهواد (من اليهودية) مشيراً إلى أنّ هنالك عشرات المراكز وكماً كبيراً من الدراسات في إسرائيل للعالم العربي بينما تجد على الطرف المقابل ضعفاً جلياً وكبيراً في بناء المعرفة العربية تجاه اليهود.
من حسن الحظ أنّ معهد السياسة والمجتمع قد بدأ منذ شهور ببرنامج خاص بدراسة الصهيونية واليهودية ويعمل على إعداد نخبة من الباحثين الشباب والدارسين في الشأن الإسرائيلي والصهيونية، يدرسون اللغة العبرية واليهودية والصهيونية ومختلف الجوانب المتعلقة بالأمر، لكن من الضروري ألا يقف الأمر عند هذا الجهد وأن يتطور إلى اهتمام أكبر أردنياً وعربياً بهذا المجال.

نيسان ـ نشر في 2025-05-28 الساعة 09:11


رأي: د. محمد أبو رمان وزير أردني سابق، باحث ومتخصص في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في العالم العربي. من كتبه "السلفيون والربيع العربي"و" الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"و "الحل الإسلامي في الأردن" و"الإسلاميون والدين والثورة في سورية".

الكلمات الأكثر بحثاً