اتصل بنا
 

الكاتبة .. وبائعة التفاح

نيسان ـ نشر في 2015-12-17 الساعة 15:51

x
نيسان ـ

بقلم تولين زلاطيمو

جلست الكاتبة الجديدة تفكر بالموضوع الذي ستكتبه لهذا الأسبوع، لقد أعطيت لقب كاتبة منذ أسبوع، في الحقيقة هي لم توافق على اللقب. كانت تكتب خواطر على الفيس بوك، تكتب ما تفكر به أحيانا بصيغته الأولية. ومع أنها تعشق الحرف العربي، وتعشق نبض الكلمات العربية، إلا أن لغتها الرئيسية كانت الانجليزية. لكنها كانت تكتب خواطرها على الفيس بوك بالعربية، لأن أغلبية متابعي صفحتها لا يجيدون الانجليزية و لأنها تحب اللغة العربية.

أقنعها صديق ( كاتب ) أن تخوض تجربة الكتابة في صحيفة الكترونية، وأثنى على خواطرها الفيسبوكية .

"لكن أنا لست كاتبة محترفة "، أخبرته ... كما أنني " سأغلبكم " في تنقيح علامات الترقيم التي لي طريقة خاصة بها، غير المتعارف عليها، وقد تجدون أخطاءا لغوية، لأنني أتأثر كثيرا بالايحاء، ومن فترة كتبت مطلع نص أقول فيه : " أريد أن أخطيء في الاملاء وأن أكسر اللغة القديمة ".

ومن يومها و أنا فعلا أخطيء قي الاملاء و بالنحو الذي كنت أعرفه بشكل عفوي، أصبحت أخطيء فيه فعلا.

" لا عليك " قال لها . "ماركيز كان له الكثير من المحررين"

" ماركيز ...حقا ... "، قالت.

" نعم ماركيز ...الكتابة لها عناصر و مكونات كثيرة ...من بينها الخيال، الفكرة، طريقة الطرح، بعض الأخطاء اللغوية ليست اشكالية كبيرة ..كما أن كبار الكتاب يستعينون بمدققين لغويين ..".

"آها ". فكرت : ماركيز، كتاب كبار، يستعينون بمدققين ... يروق لها هذا الكلام، يدغدغ أناها، يشحن خيالها، يضعها هي و ماركيز و كتاب كبار بذات الجملة و الفكرة، "يا عيني يا عيني" ،

لكنها لا تحب ماركيز، لم تحب أي شيء قرأته له باستثناء رواية قصة موت معلن ...

ما علينا، المهم أنه هي و كتاب كبار في ذات الفكرة و الجملة، يا سلام !

ربما ستصبح (كاتبة ) اذاً .. يروق لها هذا اللقب، يعجبها، مع أنها لم تحب الألقاب يوما، لم تسعَ إليها، كانت دائما مأخوذة بشيء ما في البعيد، بفكرة، بحلم غامض و بعيد، أما الألقاب لقد كانت الحياة كريمة معها، أعطتها الكثير من الألقاب، معلمة، محاضرة، مدربة، مديرة.

أعطيت فائض من الألقاب المهنية التي لها وزن و قيمة اعتبارية، علما بأنها كانت زاهدة من داخلها بكثير من الأشياء، تحديدا الألقاب، لقد كانت تختار عملا تحبه، تركز في عملها وتعمل على إجادته، لكن داخلها كان دائما مسكونا بشيء بعيد، يجعلها لا تكون حاضرة بكلها في الحياة، خصوصا في الجانب الحياتي المتعلق بالصراع على المال، المكانة، المنصب، اللقب، هذا كله كانت زاهدة فيه، وما أن تلاحظ صراعاً من هذا النوع في المحيط، تتحول الى غيمة، تحلق بعيدا، أو الى سنوسنو لتغادر مكان الصراع، روحيا ونفسيا، هذا اذا اضطرت أن تبقى جسديا، ومع هذا أعطتها الحياة الكثير من الألقاب.

لكن لقب كاتبة هذا، ومع أنها لم تسعَ اليه أيضا، أعجبها، راق لها، الكاتبة، كلمة لها سحرها، عندما نشرت الصحيفة مواضيعها كتبت هذا اللقب بجانب اسمها، أرادت أن تهاتفهم لتقول لهم أن يزيلوه، لكنها نسيت، في كل مرة تهاتف فيها الناشر، يأخذهم الحديث عن أمور تقنية و مواضيع عامة، و تنسى أن تخبره، قد تكون تعمدت أن تنسى، قد تكون أحبت أن ترى الكلمة مرارا على الشاشة، لأن هذه الكلمة تجمعها بالذين أحبت، غسان كنفاني، دوستويفسكي، اميل حبيبي، غوركي والكثير من الأحبة، أين هي و أين هؤلاء؟ عليها أن تتواضع و تعرف حجمها جيدا.

ماذا سيسمونها اذا ؟ فكرت، لاشيء، بامكانهم أن يكتبوا اسمها بجانب مواضيعها دون لقب، الى أن تُطور أدواتها و لغتها، لتشعر أنها ليست متطفلة على هذا الاسم (الكاتبة )، بداخلها هناك دائما شيء تريد أن تقوله، هناك دائما رسالة تريد أن توصلها، هذا جانب أصيل فيها، تعرف هذا عن ذاتها، وتعرف أنه يوجد بداخلها موهبة ما، لكن هل هي كاتبة ؟ لقد وافقت أن تكتب في الصحيفة من باب التجربة و معرفة ردود فعل القراء وتقييمهم لها، فكرت أنها ستساهم بقصص قصيرة، لأنها تشعر أن هناك قاصة تقبع في داخلها، و تحب أيضا أن تكتب مقالات فيها قضية اجتماعية أو فكرية.

ماذا ستكتب هذا الأسبوع؟ تفكر، وبينما هي تفكر، تهاتف أحد الأصدقاء، وهو كاتب قصة جميل، يتحدثون عن تجربة الكتابة، آفاقها طموحاتها، تخبره عن تجربتها خلال الأسبوع الذي أصبحت فيه (كاتبة ) . يناقشا بعض الروايات والقصص. لقد كانت حواراتها مع معظم من تسميهم أصدقاء عن الروايات،الكتب، الأفكار، لكنها لاحظت أن في حديثها هذه المرة نفس آخر، أصبحت تتحدث وهي تشعر أنها من داخل الحقل، أصبحت تقيّم و تعطي رأيها بالكتاب و كيفية الكتابة، أخبرت صديقها عن نوعية الكتابة التي تحب، وكيف تحب أن تكتب عن موضوعات من قلب الواقع، موضوعات فيها نبض الشارع، مثل أن تكتب عن سعر البندورة، ومن سعر البندورة تنتقل الى موضوعات فكرية و اجتماعية و فلسفية، أو تحب أن تكتب قصة أو رواية مثل رواية هيفاء بيطار، يوميات امرأة مُطلقة، وكيف استطاعت أن ترصد هذه الروائية العبقرية مشاعر امرأة مسيحية تعاني من أحكام الكنيسة في سوريا، إذ يهجرها زوجها ولا تقبل أن تعطيها الكنيسة ورقة طلاق لسنوات طويلة، فتصبح معلقة، لا هي مطلقة و لا متزوجة، ترصد مشاعرها الدقيقة، شعورها بالحرمان العاطفي و الجنسي و كيف تعاملت معه . أحدثت هذه الرواية ضجة في سوريا، واضطرت الكنيسة أن تراجع قوانينها فيما يتعلق بالطلاق، هذه هي نوعية الكتابة التي تحب، تلك التي تصنع التغيير وتُحدث فرق نوعي في القوانين أو الوعي العام، تلك الروايات، القصص أو المقالات التي تخرج من صلب الواقع وتفاعلاته، لا الخيالية بشكل محض او البعيدة فكريا بمسافات عن وعي واحتياج الشارع ، هذا ما تريده، هذا ما ستكتبه.

أخبرها صديقها عن رؤية ميخائيل نعيمة في هذا الأمر، عندما كتب عن كيف إنشغل المثقف العربي في الكتابة عن السلطة أو حولها، اما تأييدا أو معارضة، ونسي أن يكتب و يرصد و يحلل الشعب بدقة وأن يعرفه بدقة، راق لها ما قاله صديقها، وأثنت على قصة له اسمها وضوء، يرصد فيها حالات رجل مقهور، يفرح عندما يكتشف أن أمه لا تعرف كيف تتوضأ، يفرح لأنها فرصته لكي يصبح معلما عليها و يعلمها الوضوء، تثني هي على القصة و تخبره كيف أعجبتها طريقته بالسرد، كيف ركز على سرد انفعالات الشخصيتين الرئيستين، دون ان يقحم تحليله الشخصي على القصة، بنى التفاصيل لكي يكتمل التحليل في ذهن القاريء.

(هذه هي أصول الكتابة القصصية يا صديقتي، على الكاتب أن يخلق شخصيات ..." ممنوع " ان يقحم تحليله الشخصي)، لفت انتباهها كلمة ممنوع ، صعقتها، وأخبرته كيف أنها لا تعتقد أنه يوجد مدرسة واحدة و قالب واحد لكتابة القصة، استكملوا الحديث كخبراء في الكتابة.

أخبرته كيف تريد ان تكتب عن المهمشين، عن الذين لا صوت لهم، الشعب، مثلما قال ميخائيل نعيمة، وأخبرته عن قصة لبائعة تفاح حدثت أمامها في موقف باصات اربد، استوقفتها قبل بضعة سنوات، تريد أن تكتب عنها، وقالت له سريعا ما هي القصة، وأخبرته كيف أن القصة أثرت فيها، هي أكثر قصة تمثل فئة المهمشين أثرت فيها من سنين، " أكتبيها يا صديقتي " قال لها.

"المشكلة هي أنها قديمة ، ضاعت مني نبرة صوتها، انفعالات الوجوه، طزاجة الشعور بالحدث " قالت.

"استخدمي الخيال للإستعاضة عن هذا " قال لها.

فكرتْ، هل يعقل أنها لا تستحضر قصة عن المهمشين أثرت بها بعمق، الا قصة بائعة التفاح التي حدثت في موقف باصات اربد، قبل بضعة سنوات، كيف هذا ؟ هي تقرأ كل يوم عن قصص تؤثر فيها وتخضها، لكنها تبحث عن قصة مرت عليها حقيقة، لا قصة سمعتها أو قرأت عنها، لا بد أنها أصبحت تعيش في برج عاجي، ولا تستطيع استحضار الا قصة بائعة التفاح التي حدثت منذ سنين.

هذا ما حدث، صحيح أنها تركب تكاسي دائما، وقد يكون الكثير من سائقي التكاسي من فئة المهمشين، الا أنها لا تتحدث مع سائقي التكاسي، ترسم وجها رسميا جاد، ما أن تدخل المركبة، وتشد على الأحرف و تقول : " على العافية " بجدية بالغة، "على اللويبدة لو سمحت، أو على خلدا أو شميساني مثلا" هكذا تعلمت كيف تحمي نفسها من "حشرية" بعض سائقي التكاسي، هكذا تعلمت أن تتحدث لكي تحمي تفسها من أن ينظر إليها أحدهم كأنثى، وكانت هذه التقنية تنجح، ما أن تركب المركبة وتشد على الأحرف، يفهم سائق التاكسي في معظم الأوقات، ويبقى صامتا طول الطريق، ويفتح لها الراديو على الأخبار مثلا ، لقد تعلمت أشياء كثيرة لكي تستطيع أن تعيش بسهولة أكبر في بعض المجتمعات، من بينها أنها تعلمت كيف تخلق حواجز و مسافات، وكيف تكون في ذات المكان مع آخرين دون أن تعرف شيء عنهم ودون أن يعرفوا شيء عنها .

وفكرت بقصة بائعة التفاح، وكتبت عن القصة هذا : "أحمر يا التفاح، التفاح التفاح " أخذت تصيح الامرأة العجوز التي افترشت الرصيف الموازي لموقف باصات اربد.

كانت سلة التفاح التي تحملها بسيطة و أنيقة، حبات التفاح ملمعة نظيفة، والتفاح يكاد ينطق و يحكي، شهي وأحمر.

" اشترِ مني التقاح ..تفاح بلدي تفاح أحمر"، تقول العجوز وهي تدلل الكلمات قبل أن تنطقها، وتبتسم بوجهها النابض الذي هو أيضا يشبه حبة تفاح للوهلة الأولى، لكن ما أن يدقق الناظر يعرف أنه يخفي قصة تعب و انكسار، قصة آلاف الفقراء الذين يحتالون على بؤسهم، يخبؤنه و يحاولون أن يمرروا الحياة بفرح ما.

والمارة ما أن يسمعون نداءها، ما أن ينظرون الى سلّتها، يشترون منها، تبتسم و هي تبيعهم و تدعو لهم، " الله يحنن قلب الناس عليك"، تقول لأحد الزبائن أو تقول : " الله يستر عليك و يبعد عنك أولاد الحرام " أو " ربي يعطيكي ليرضيكي ".

بالقرب منها على الرصيف ذاته كان هناك بائع ليمون وآخر يبيع البصل و بائع آخر للفجل. لكن بائعة التفاح العجوز كانوا زبائنها أكثر بكثير.

" يا لئيم، يا حقير، الله لا يوفقك ..الله لا يباركلك " أخدت تصيح العجوز تصيح وتبكي .

" شو في يا حجة شو في مالك ؟ " أخذ المارة يسألونها .

كان بائع الليمون قد ضاق صبره بها وبتفاحها. أخذ يرمي التفاح بعيدا ويطردها عن الرصيف .

" الله لا يباركلك يا دون يا واطي الله يسم بدنك " أخذت تصرخ العجوز و هي تلملم التفاح، تمسح دموعها، تبكي كطفلة في الرابعة من عمرها، تبكي و تبلع الكلمات و تمسح الدموع، " الله لا يباركلك مش حرام عليك .هو كاين رصيف أبوك يا مصدي ..لاحقني على رزقي".

وبائع الليمون يشتمها و يصرخ في وجهها " اخرسي يا مرة، لا تزيدي ولا حرف" ويقترب منها رافعا قبضته ليضربها.

أخذ المارة يوقفون بائع الليمون العجوز، ويمسكون يده كي لا يضربها " ليش هيك يا حجي حرام عليك..حرام"

" هاظ مطرحنا "، قال بائع الليمون " هي اجت تبيع تفاحها المخمج عندنا .. بدها تنافسنا على رزقنا".

" وحّد الله يا حجي " يقول المارة .. " حرام يا حج " و هو مصر : " اوعي اشوف خلقتك هون انت وتفاحك المخمج "

" هل أزعجتِه ؟ " يسألها المارة " لماذا يفعل كل هذا معك ؟ "

" أنا ما عملتله اشي .. قاعدة كافية خيري شري، ببيع مثلي مثله ... شو أعمل يمّا اذا الناس بتحبني ...وبعدين أنا بمسح التفاح كل يوم ..وبلمعه، وادعي للناس من قلبي و ببتسملهم ...غار مني المكيود المعفن، أبو قلب أسود ... الله لا يوفقك هاظ رزقي و رزق أولادي، الله لا يوفقك عامل علينا زلمة الرصيف بستقوي علي حاسب حاله علينا زلمة، وعدي رجالك عدي من الأقرع للمصدي".

وتابعت "أنا قلتله للمصدي ..قلته ينظف اللمونات . قلتله يحطهن بسلة حلوة ويبتسم ويدعي للناس ..والله اني نصحته ..هو المعفن ماردش ..قلتله يبتسم ..ماقدرش ..قلبه أسود بعرفش يبتسم لو بالكذب .. "

وتمشي العجوز حاملة سلتها، تمسح دموعها ترسم ابتسامة على وجهها وتنادي " التفاح التفاح .. مين يشتري مني التفاح ؟ الله يرضى عليكم ..الله يستر عليكم ...اشتروا مني التفاح " .

أرسلت القصة لصديق، كان يقرأ مواضيعها، وهي تثق بثقافته و رأيه ...

" ما هذا ؟ " قال . يعني لا بأس بالنص ... لكنك أكثرت من الحوارات و المسبات العامية ... كما أنك كنت تكتبين بشكل أفضل سابقا، حاولي أن تقلصي من حوار بائعة التقاح و ركزي على وصفها بلغتك ووصف المكان" .

" مممم " قالت له. " لكن هذا هو ما أردته، أردت أن أنقل كلماتها، كلماتها هي ...لا وصفي أنا لها " .

قال صديقها: نعم أفهم هذا، لكنها تشتم كثيرا، أضاف مازحا كما أن لهجتها قد لا تكون مفهمومة لكل القراء.

" نعم هي تشتم كثيرا "قلت. "أردت أن أنقل شتائمها و مسباتها... حتى أنني أريد أن أملأ كل الصفحات بشتائمها، ألا يحق لها؟ وهي المقهورة في الحياة أن تشتم، هل أقهرها داخل نصي أيضا و أكتم مسباتها؟ وأستعيض عن هذا بوصفي أنا لها، أريد أن أكتبها بلغتها هي، لا باسقاطات مني أنا، قالت هذا وهي تشعر بفخر ... تشعر بأنها عادلة و منصفة، وفكرت بأنها تريد أن تطور قصة بائعة التفاح، كيف بامكانها أن تفعل هذا؟ فكرت بأنه من الضروري أن تضيف ( مونولوج ) تضيف حوار بائعة التفاح الداخلي .

تضيف ماذا كانت تفكر ... كيف كانت تصبّر نفسها .. ماذا كانت تحلم .

فكرت، لكنها لا تعرف هذا، هي لم تتحدث معها، هي رأت المشهد من بعيد، اذاً، ستستخدم الخيال لتبني حوار بائعة التفاح الداخلي ...أو ستستعين بما قرأته في كتب علم النفس التي تشرح سيكولوجية المرأة المقهورة، لكنها لا تريد أن تفعل هذا، لا تريد أن تدخل على القصة أي اسقاطات من علم النفس، تريد أن تكتب حوار بائعة التفاح الداخلي...لكنها لا تعرف أحلامها لا تعرف مخاوفها ..لا تعرف أي شيء عن حياتها، فبائعة التفاح مثلها مثل باقي المهمشين العابرين في حياتها ...لا تعرفهم حقيقة.

كيف هذا؟ هل يعقل؟ ألم تكن ابنة حزب و تيار يساري لفترات طويلة من حياتها ؟ كيف لا تعرف المهمشين ؟ لقد كان الحزب ينادي بحقوق المهمشين، والمظلومين، كيف لا تعرفهم ؟

نعم، هي لا تعرفهم، كانت تعرف رفاق و رفيقات لها قبل 20 عاما وأكثر في الجامعة، عندما كانت جزء من تيار سياسي يساري، لكنها هي و أصدقائها لا يعرفون الكثير من المهمشين، ببساطة لأن الكتب التي يقرأونها تصنع مسافات بينهم و بين هذه الفئة، لقد كانت هي وهم يحرصون على مسافات بينهم و بين ( الآخرين) نعم مسافات، من جهة لأن كتب ماركس، هيجل، غوركي، حسين مروة والكثير من الكتب التي قرأوها، كانت تخلق حاجز بينهم وبين الآخرين، الذين لم يقرأوا هذه الكتب، لأنها لا تُدرّس في المدارس والجامعات ولأن الكثير من هذه الكتب كانت ممنوعة في ذلك الوقت، نعم، كانت هناك حواجز بينهم وبين الآخرين، لقد خلقت كل هذه الكتب حاجز ما، كما أن الأخرين كانوا حريصون أيضا على إبقاء المسافات ذاتها، لكي لا يختلطوا بالمغضوب عليهم من قبل الأطر الرسمية في ذالك الوقت، ومع مرور الوقت أصبحت هي واصدقائها يشكلون فئة أخرى، أو حتى طبقة أخرى، طبقة المثقفين، ومثل أي طبقة اجتماعية، لهم لغتهم ،رموزهم، مصطلحاتهم و طرق تفكيرهم الخاصة، التي بالضرورة تخلق مسافات، بينهم و بين الآخرين.

هكذا أصبحت لا تعرف الكثير من الناس حقيقة، تحافظ على مسافات محسوبة بدقة و تعقيد بالغ ترسخه هذه المسافات.

وبعدها، عملت لسنين في المخيمات الفلسطينية كمتطوعة، وقتها تعرفت على كثير من المهمشين فعليا، كانت تندهش من سهولة حديث بعض النساء وسحره، استرسالهن.

بعض من النساء اللواتي تحدثن إليها كن يسردن قصة حياتهن على عتبة باب البيت، لشدة حماسهن، وبعدها ينتبهن و يدخلنها الى البيت، نساء عفويات، جميلات صادقات، يسترسلن و يسترسلن بالتفاصيل، ومنهن من تبدأ بشتم هذه الحياة الحقيرة، ومنهن من تحكي قصة خذلان الحياة. أو ما قد يعتبر فضائح يقلنها بسهولة، هي لا تتذكر تفاصيل الحوارات الآن ، كان ذلك قبل أكثر من 10 سنوات، لكنها تتذكر انطباعاتها، تتذكر كيف أنها كانت تشعر أنها تجلس مع أناس حقيقيين، يتحدثون بقصصهم الحقيقية، من دون تجميل، من دون تخبئة، دون مرواغة، ومن دون كل تقنيات التزويق والاخفاء، التي نستخدمها نحن، فئة غير المهمشين.

يسكبن الوجع بسهولة على شكل كلمات، أو الفرح، الأحلام، الخذلان، كانت تسمع و تندهش، وتتوجع أحيانا كثيرة، لكنهن كنً يعرفن كيف يخففن الوجع، اذا ما انتبهن أن حديثهن أصبح موجعا، فيطلقن النكات على الوجع للتخفيف عليها.

كانت تندهش من سهولة البوح، ولا تعرف سبب هذا الاسترسال بأريحية... هل لأنها من خارج المخيم؟ مما يشعرهن، أنهن يبحن َ لغريبة لن تطل مرة أخرى، أي أنهن يشعرون بأمان لأن بوحهن قيل لغريبة سترحل ببوحهن و تبقى غريبة لن يرينها مرة اخرى و يشعرنَ بالحرج من الوضوح امامها ؟أم أنهن يتحدثن بهذه الأريحية مع الجميع ؟ لا تعرف، قد يكون السبب هو ما قرأته ذات يوم بأن المهمشين يستطيعون أن يكونوا على حقيقتهم أكثر لأنهم لا يخافون على صورتهم أمام الآخرين،.ليس لديهم الكثير مما يخفونه، فبؤسهم واضح، وتهميش الحياة لهم و قسوتها عليهم واضحة، ليس هناك صورة أنيقة يريدون الحفاظ عليها، لقد عرّتهم الحياة و قذفت بهم بشكل مكشوف وواضح.

وأعود لبائعة التفاح، ماهي أحلامها ؟ ماذا ممكن أن يكون حوارها الداخلي ؟ ماذا يمكن أن تقول بينها وبين نفسها ؟هي لا تعرف، لأنها لم تتحدث معها، حتى أنها لا تتذكر وجهها بدقة، كتبت أنه يشبه التفاحة لكي تسهل على نفسها عناء التذكر وعناء الوصف، لقد سمعت مسباتها، وصراخها ...قال لها المارة بعض من قصتها، أما باقي القصة عن كيف تُلمّع التفاح الخ، أضافتها من خيالها، لكي تكتب قصة عن المهمشين، المهمشين الذين لم تعد تعرفهم، عرفت نساء المخيم، لكن هذا كان قبل سنين طويلة، بعدها، انشغلت بالعمل أو بالانعزال عن الكثير من الأشياء، لقد تعبت.

بائعة التفاح، ماذا كانت تحلم؟ هي لا تعرف، أرادت أن تكتب قصة تعطي لبائعة التفاح قيمة اعتبارية، تجعلها مركزا، ليس هامشا لمرة واحدة تجعلها بطلة و تعطيها الصدارة، حتى لو كان هذا على الورق، وها هي تتحدث عن نفسها هي الآن بدلا من بائعة التفاح، ها هي ترصد حالاتها هي ككاتبة وتتحدث عن ذاتها هي، وبائعة التفاح، المهمشة، تبقى مهمشة داخل النص وداخل الحياة، وحتى لو استخدمت خيالها وكتبت قصة طويلة جاعلة بائعة التفاح البطلة، كانت بعد أن ترسل القصة للنشر، ستنشغل، نعم كانت ستنشغل عن بائعة التفاح " باللايكات و التعليقات"، وربما بمدح القراء، لها هي ، اذا ما أحبوا القصة، بائعة التفاح المهمشة ستبقى مهمشة، حتى داخل نصها هي، واذا كتبتها ستصبح مهمشة داخل وجدانها.

نيسان ـ نشر في 2015-12-17 الساعة 15:51

الكلمات الأكثر بحثاً