اتصل بنا
 

سرّ 'الصنعة الأردنية'!

باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومتخصص في شؤون الفكر الإسلامي

نيسان ـ نشر في 2025-06-11 الساعة 10:05

نيسان ـ شكّل وصول المنتخب الوطني إلى كأس العالم مناسبة كبيرة لإظهار المشاعر الوطنية في الشارع الأردني، إذ أكّد مرّة أخرى على أنّه مهما كانت التحديات والمشكلات السياسية أو الاقتصادية أو حتى الاجتماعية، فإنّ هنالك مشتركات كبيرة وديناميكيات للوحد الوطنية التي تشمل الجميع، فتنوعنا واختلافاتنا وتعدديتنا تحت مظلة الهوية الوطنية والمصالح الوطنية والدولة والدستور هي مدماك من مداميك القوة الناعمة للأردن.
الأردن ليس الفريق العربي الوحيد الذي يصل إلى كأس العالم، وليس الأول، فهنالك العديد من المنتخبات التي حققت هذا الإنجاز، لكن لماذا جذب وصوله اهتمام وتقدير عدد كبير من المعلقين والسياسيين العرب والغربيين؟.. لأنه وصل بالرغم من كل التحديات والصعوبات المالية وقلّة الموارد؛ لأنّه اعتمد على إصرار هؤلاء الشباب المقاتلين على تحقيق الإنجاز؛ وفي الوقت الذي تنفق أضعاف مضاعفة من الأموال لتحقيق هذه الإنجازات في الدول والمجتمعات الأخرى؛ يصل الأردنيون عبر التفكير والإدارة والإرادة والموارد البشرية، وربما هذا ما كان – تاريخياً- سبباً في تفوق الأردنيين.
ليست هذه حال المنتخب الوطني وحده؛ بل هو قدر الدولة كلّها؛ الأردن ليس دولة نفطية ولا تملك موارد طبيعية غنية وكبيرة، ولا يعيش حتى في بيئة إقليمية هادئة، فينعم بفرصة البناء المستمر والعمل الهادئ، بل على النقيض من ذلك نحن – الأردنيين- نعمل دائماً تحت الضفوط الشديدة، في حالة طوارئ تاريخية (على حد تعبير الصديق باسم الطويسي)، ونحن على تماس مباشر - شكراً للجغرافيا السياسية- مع كل مشكلات المنطقة وأزماته.
لم يأتِ استقرار الأردن وصموده وعبوره لمحطات تاريخية قاسية وخطيرة ومصيرية من فراغ؛ بل هو ناجم عن قيادة محنّكة، وخلطة سحرية بينها وبين الشارع، هل رأيتم زعماء أو قادة آخرين يتركون المنصّة ويجلسون بين الجماهير وسطهم (كما فعل ولي العهد الأمير الحسين وشقيقه الأمير هاشم والأمير علي والأمراء الآخرون)؟! وهو استقرار ناجم عن شعارٍ ذكي وعميق وحكيم أطلقه الملك الحسين بن طلال قبل خمسين عاماً «الإنسان أغلى ما نملك» في العام 1975؛ لأنّ الرهان التنموي هو على العقول الأردنية المميزة، في التعليم والإدارة والمهن المختلفة، وهي «الصنعة الخاصة» التي لم تسهم فقط في تطوير بلادنا وتنميتها بل في تنمية العديد من الدول العربية الأخرى!
الوصول إلى كأس العالم فرصة لإعادة اكتشاف الذات واستنطاق معالم الشخصية الأردنية، كيف تسهم الجغرافيا أو «البصمة الجغرافية» (على حد تعبير جمال حمدان صاحب كتاب «شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان) في بناء السياسات الأردنية وفي صياغة المجتمع؟ وكيف تفاعلت مع التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي في صياغة الهوية الأردنية؟.. مثل هذا الإدراك الوطني وتطويره معرفياً وتعزيزه عبر المناهج التعليمية وفي الجامعات وفي التنشئة الوطنية هو الأساس الذي من المفترض أن يتم البناء عليه سياسياً ووطنياً في المرحلة القادمة..
لدينا، نحن الأردنيين، طموحات وتوقعات عالية، مما يعكس الاهتمام الكبير بالتعليم والسياسة لدى نسبة كبيرة، وفي الوقت نفسه ثمة نزعة نقدية تجاه الأوضاع والتفكير دوماً في الأفضل، ربما تتحول هذه النزعة في بعض الأحيان إلى مازوشية، فلا ترى إلاّ الامور السلبية، بينما من يرى الأردن بعيون مختلفة هم من يأتون من الخارج، فيتعجبون من هذه الإنجازات والتطور في مجالات عديدة، بالرغم من قلة الموارد والظروف الإقليمية المحيطة، والأزمات المتتالية التي يقع فيها الأردن تحت وطأة عوامل خارجية لا داخلية، فمن الضروري أن نحرص أن يكون لدينا الحسّ النقدي الإيجابي البنّاء.
وصول المنتخب إلى كأس العالم إنجاز مهم، كما حدث مع رياضات أخرى عديدة نتميز بها مثل كرة السلّة والتكواندو وألعاب أخرى، ومن المفترض أن يكون ذلك سبباً في بناء إدراك جديد يقوم على الاهتمام بهذه الجوانب الناعمة في القوة الأردنية Soft Power وتطوير السمات المميزة في النموذج الوطني، وأن تخصص أموال وموارد أكثر لها، لأنّها لا تقل أهمية على صعيد الاستقرار والتحديث السياسي والاقتصادي، وأن ينعكس ذلك على الاهتمام بالرياضة والفن والثقافة بصورة أكبر وبناء منظومة متكاملة فلا يتبدد ما حققناه في المرحلة القادمة..

نيسان ـ نشر في 2025-06-11 الساعة 10:05


رأي: د. محمد أبو رمان باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومتخصص في شؤون الفكر الإسلامي

الكلمات الأكثر بحثاً