حين يبتسم الأمل في فم الجرح..... تعقيب على قراءة وليد عبد الحي: مفارقةٌ للتأمّل(المنشورة على فيس بوك)
نيسان ـ نشر في 2025-08-12 الساعة 17:12
نيسان ـ في معرض التمدّن الفاخر يرفع بعضهم لافتةً ضخمةً تقول: نحن نحبّ الحياة أكثر منكم.
نقترب من اللافتة فنجد تحتها صفًّا طويلًا من المواعيد مع العيادات النفسية وبطاقة انتظار إلى مصحة ما بعد البطولة وتعويذةً صغيرةً مكتوبًا عليها: أعد لي نومي إن استطعت. هناك تتدفّق كلماتٌ مثل الصدمة والكوابيس واليقظة الفزِعة أكثر مما تتدفّق قصائدُ الحب. وما أن يسقط شعار التمدّن عن الجدار حتى ترى الجدار نفسه يضع يده على رأسه ويتمتم: أنا الذي علّقتُ عليه وهمَ التفوّق
فمن يعلّق عليَّ الآن أسباب السقوط؟.
على الطرف الآخر، ثمّة شعبٌ يتنفّس تحت الماء منذ ثلاثة أرباع قرن ومع ذلك يوقّد قنديلاً ويقول: سنخرج للهواء معًا، ثم يبتسم. يسأله السائل: ألا تتعب؟ فيجيب: نعم أتعب! لكنّي أحبّ الحياة أكثر مما تحبّون صيغتها البلاستيكية. إنّه الفرق بين مَن يتدرّب على العيش بالحيلة ومَن يتعلّم العيش بالمعنى.
العصاب - في تعريفه اليوميّ - أن تذهب لاصطياد عدوّك الداخليّ بمدفعٍ خارجيّ. فإذا لم تُصِبْه، ارتدّت الطلقة إلى صدرك. عندئذٍ يكتشف المتحضّر أن غريزة الموت لا تنطفئ بالتصفيق وأن المعبد الحديدي الذي بناه لروحه لا يمنع ارتجاف الأصابع. يعترف الجنديّ في المرآة: خرجتُ من الحرب، لكنّ الحرب لم تخرج منّي، ثم يطفئ الأنوار باحثًا عن زرٍّ للحياة فلا يجده.
وفي الضفّة المقابلة، يقف الفلسطينيّ أمام الباب المخلوع للكون، يرمّمُه بقبضةِ أمٍّ ويدِ أبٍّ وصوتِ مؤذّنٍ وأغنيةِ طفلةٍ تعود من المدرسة. لا يحتاج إلى صخبٍ ليقول: أنا هنا. يكفيه ميزانٌ داخليّ دقيق: كِفّةٌ للعدل وأخرى للرجاء. فيستقيم القلب ويستقيم المزاج. لا لأن العذاب قليل، بل لأن المعنى كبير.
التمدّن الحقيقي ليس متحفًا من الأجهزة اللامعة، بل قدرةُ روحٍ على أن تُمسك بالخيط الرفيع بين الألم والانتحار و بين الذهول والسكينة. وهنا تتجلّى المفارقة: شعبٌ محاصرٌ يُمسك بالخيط فلا ينقطع وآخر مُطمئنٌ ظاهريًا يقطعه بيده حين يعجز عن لفّه حول عنق الآخرين.
وختام السخرية:
إذا كان حبّ الحياة هو حُجّة التمدّن، فالحياة تشهد اليوم لمن يصونها بالصبر والعدل والرجاء، لا لمن يجرّب قتلها في الآخرين ثم يكتشف - متأخرًا - أنّ الرصاصة تعرف طريق الرجعة.
إن الأرقام الواردة وصفٌ دالّ اجتماعيًا على اتّساع الألم العصابي داخل مجتمعٍ يدّعي المناعة.
أي إن المناعة النفسية المجتمعية ليست شعارًا بل منظومة قيم ودعم ومعنى.
إن المقارنات
العابرة للحدود تتأثّر بتفاوت أنظمة التسجيل والوصمة الاجتماعية، والاختلاف في التعريفات الطبية–القانونية. لذلك إن الأرقام دلالة اجتماعيةٍ على المعنى والرجاء أكثر من كونها أحكامًا إكلينيكية نهائية ومع ذلك فإن اتجاه المفارقة واضح: مجتمعٌ تحت الحصار يثبت - إحصائيًا وسلوكيًا حبًّا راسخًا للحياة وآخرُ غارقٌ في ادّعاء الحضارة تُطارده أشباحها في غرف النوم وممرّات المصحّات.
نقترب من اللافتة فنجد تحتها صفًّا طويلًا من المواعيد مع العيادات النفسية وبطاقة انتظار إلى مصحة ما بعد البطولة وتعويذةً صغيرةً مكتوبًا عليها: أعد لي نومي إن استطعت. هناك تتدفّق كلماتٌ مثل الصدمة والكوابيس واليقظة الفزِعة أكثر مما تتدفّق قصائدُ الحب. وما أن يسقط شعار التمدّن عن الجدار حتى ترى الجدار نفسه يضع يده على رأسه ويتمتم: أنا الذي علّقتُ عليه وهمَ التفوّق
فمن يعلّق عليَّ الآن أسباب السقوط؟.
على الطرف الآخر، ثمّة شعبٌ يتنفّس تحت الماء منذ ثلاثة أرباع قرن ومع ذلك يوقّد قنديلاً ويقول: سنخرج للهواء معًا، ثم يبتسم. يسأله السائل: ألا تتعب؟ فيجيب: نعم أتعب! لكنّي أحبّ الحياة أكثر مما تحبّون صيغتها البلاستيكية. إنّه الفرق بين مَن يتدرّب على العيش بالحيلة ومَن يتعلّم العيش بالمعنى.
العصاب - في تعريفه اليوميّ - أن تذهب لاصطياد عدوّك الداخليّ بمدفعٍ خارجيّ. فإذا لم تُصِبْه، ارتدّت الطلقة إلى صدرك. عندئذٍ يكتشف المتحضّر أن غريزة الموت لا تنطفئ بالتصفيق وأن المعبد الحديدي الذي بناه لروحه لا يمنع ارتجاف الأصابع. يعترف الجنديّ في المرآة: خرجتُ من الحرب، لكنّ الحرب لم تخرج منّي، ثم يطفئ الأنوار باحثًا عن زرٍّ للحياة فلا يجده.
وفي الضفّة المقابلة، يقف الفلسطينيّ أمام الباب المخلوع للكون، يرمّمُه بقبضةِ أمٍّ ويدِ أبٍّ وصوتِ مؤذّنٍ وأغنيةِ طفلةٍ تعود من المدرسة. لا يحتاج إلى صخبٍ ليقول: أنا هنا. يكفيه ميزانٌ داخليّ دقيق: كِفّةٌ للعدل وأخرى للرجاء. فيستقيم القلب ويستقيم المزاج. لا لأن العذاب قليل، بل لأن المعنى كبير.
التمدّن الحقيقي ليس متحفًا من الأجهزة اللامعة، بل قدرةُ روحٍ على أن تُمسك بالخيط الرفيع بين الألم والانتحار و بين الذهول والسكينة. وهنا تتجلّى المفارقة: شعبٌ محاصرٌ يُمسك بالخيط فلا ينقطع وآخر مُطمئنٌ ظاهريًا يقطعه بيده حين يعجز عن لفّه حول عنق الآخرين.
وختام السخرية:
إذا كان حبّ الحياة هو حُجّة التمدّن، فالحياة تشهد اليوم لمن يصونها بالصبر والعدل والرجاء، لا لمن يجرّب قتلها في الآخرين ثم يكتشف - متأخرًا - أنّ الرصاصة تعرف طريق الرجعة.
إن الأرقام الواردة وصفٌ دالّ اجتماعيًا على اتّساع الألم العصابي داخل مجتمعٍ يدّعي المناعة.
أي إن المناعة النفسية المجتمعية ليست شعارًا بل منظومة قيم ودعم ومعنى.
إن المقارنات
العابرة للحدود تتأثّر بتفاوت أنظمة التسجيل والوصمة الاجتماعية، والاختلاف في التعريفات الطبية–القانونية. لذلك إن الأرقام دلالة اجتماعيةٍ على المعنى والرجاء أكثر من كونها أحكامًا إكلينيكية نهائية ومع ذلك فإن اتجاه المفارقة واضح: مجتمعٌ تحت الحصار يثبت - إحصائيًا وسلوكيًا حبًّا راسخًا للحياة وآخرُ غارقٌ في ادّعاء الحضارة تُطارده أشباحها في غرف النوم وممرّات المصحّات.
نيسان ـ نشر في 2025-08-12 الساعة 17:12
رأي: د. وليد العريض


