اتصل بنا
 

من ديوان مقاوم خاص (13) .. القارة البيضاء وسواد لا يُغسل

نيسان ـ نشر في 2025-08-27 الساعة 13:39

نيسان ـ اوروبا
يا قارة الثلج والحديد، يا قارة تدّعي البياض بينما يسيل من قصورها دم أسود لم يجف منذ قرون. كيف لوجه يطلّ على العالم بربطة عنق أن يخفي تحت جلده رائحة الكولوسيوم؟ ذلك المدرج الذي صفق فيه الأجداد حين تمزقت الأجساد وضحكت فيه الأمهات على مشهد أسود يلتهم طفلاً أمامها. أيّ حضارة هذه التي تبدأ تسليتها بجثة وتنهيها بكأس نبيذ؟
ثم يكبر المشهد ويصير اسمه حربًا. ثلاثون عامًا من الجنون جعلت ألمانيا بلا رجال، ملايين من الأرواح تحولت إلى تراب ومع ذلك يكتبون في مناهجهم:
لقد أنقذتنا النهضة من الظلام. أي نهضة تلك التي تقيس قامة الإنسان بعدد المدافع؟ وأي حضارة تلك التي علّمت أطفالها أن المجازر جزء من درس التاريخ الطبيعي؟
وحين ضاقت صدورهم ببعضهم، فتحوا أبوابهم للعالم. خرجوا إلينا كما يخرج السائح، لكنهم لم يحملوا كاميرات ولا دفاتر ملاحظات، بل حملوا البارود والجدري والصلبان المسنونة. في الأميركتين أبادوا شعوبًا كاملة ثم قالوا:
هذه هي القارة الجديدة. جديدة بماذا؟ بجماجم الهنود الحمر التي غُسلت بالخمور الأوروبية؟ أم بأحذية الصيادين المصنوعة من جلود البشر؟ في إفريقيا حوّلوا الإنسان إلى سهم في بورصة لندن وباريس. أيقظوا القارة كل صباح ليقولوا لها:
أنتِ اليوم شحنة جديدة من العبيد، ستذهبون إلى مزارعنا كي نأكل السكر ونشرب الشاي. وفي الصين، باعوا الأفيون كما يبيعون القمح، ثم دخلوا بكين يوزعون الأناجيل. أي مفارقة أفظع من قارة تبيع السمّ وتوزع معه الصلاة؟
اليوم يقفون تحت ثريات قصورهم، يتحدثون عن حقوق الإنسان. قصورهم تعرف الحقيقة أكثر منهم، فكل جدار فيها مسكون بأنين العبيد وكل رخام فيها مصقول بدم المستعمرات. أما شوارعهم فتغسل وجوهها بطلاء أبيض وتخرج لافتاتها:
لا للعنصرية. يا للمهزلة! الذئب يكتب بيانًا ضد الافتراس والجلاد يدعو إلى مؤتمر عن الرأفة.
لكن الحقيقة لا تحتاج إلى عناوين ولا إلى وثائق، يكفي أن تذكر كلمة واحدة:
فلسطين.
فلسطين هي المرآة التي تكشف وجه أوروبا دون مساحيق. سبعة وسبعون عامًا على الجريمة التي ارتكبها الإنجليز، حين سلّموا الأرض لشذاذ الآفاق ثم رحلوا. لم يتركوا وراءهم دولة، بل تركوا سرطانًا متجذرًا في قلب الأمة. كل قطرة دم فلسطيني هي توقيع جديد على صكّ العار الأوروبي. فلسطين ليست قضية سياسية، بل الجرح الذي يصرخ كل يوم:
هذا تاريخكم هذا سوادكم هذه بضاعتكم التي لم تنتهِ صلاحيتها. ما قيمة كل مظاهراتهم ضد العنصرية إذا كان الطفل الفلسطيني يدفن كل يوم بطلقة أوروبية الصنع؟
أوروبا تحاول أن تبيض نفسها، لكنها لا تغسل إلا وجهها، أما يداها فلا تزال ملطخة. قد تضع كريمات الديمقراطية وقد ترتدي أثواب الحرية، لكنها ما أن تمشي تحت المطر حتى يظهر الوشم الحقيقي: جلود مسلوخة، شعوب مسحوقة، حضارة قامت على المقصلة. والسؤال باقٍ:
هل يملك الأوروبي الشجاعة ليعترف أنه لم يكن ملاكًا أبيض بل جلادًا أنيقًا؟ أم أن العالم ينتظر من الإسلام، إذا غسل نفسه من سواد الدواعش، أن يقدّم بديلاً إنسانيًا لا يحتاج إلى مساحيق، لأنه لم يُبْنَ يومًا على الدم

نيسان ـ نشر في 2025-08-27 الساعة 13:39


رأي: د. وليد العريض

الكلمات الأكثر بحثاً