اتصل بنا
 

وزاراتٌ تُفكّر بالطباشير… وجامعاتٌ تُفلس بالحبر

نيسان ـ نشر في 2025-10-19

نيسان ـ بقلم : د. وليد العريض
...
في كل بلدٍ يحترم ذاكرته، تكون الجامعة بيت العقل ومحراب الفكرة ومزرعة المستقبل.
أما عندنا، فقد صارت الجامعة أقرب إلى مبنى قديمٍ يتنفّس من أنفاس موظفيه،
ويكتب تقريره المالي على ورقٍ مستعمل، كأنّها تدرّس العجز لا الفيزياء
وتخرّج الحيرة قبل أن تُخرّج الطلبة.
منذ أعوامٍ طويلة، كان يُقال إنّ الدولة تحتضن جامعاتها كما تحتضن الأمّ طفلها الأول.
كانت تراقبها بحنانٍ ملوّثٍ بالقلق وتُغدق عليها بما استطاعت من الرعاية.
لكنّ العلاقة تغيّرت حين كبر “الطفل” وصار يُطالب بحقوقه.
تراجعت العاطفة وتقدّمت المحاسبة.
صار السؤال: كم تُنفق الجامعة؟ لا ماذا تُنجز.
كم تُحصّل من الرسوم؟ لا كم تُخرّج من عقولٍ حرة.
في زمنٍ يُقاس فيه التعليم بالدنانير لا بالأفكار،
صارت الجامعات الرسمية تشبه خزائن قديمة، يُقفلها المدير مساءً
ليطمئن أن أحدًا لن يسرق ما تبقّى من دفاترها،
بينما الآخر يجلس في الأعلى يوقّع على سياسات “التقشّف المعرفي”.
كلّ شيءٍ في جامعاتنا صار يُدار بمنطق الموازنة:
المختبر يُطفأ مبكرًا لتوفير الكهرباء،
والمكتبة تُقفل باكرًا لتقليل النفقات،
والمحاضر يُطالب بتقليص المقرّر لتقليل الحبر.
حتى الأفكار أصبحت بنظام “الساعة الإضافية”؛
إن أردتَ أن تحلم أكثر، عليك أن تدفع أكثر.
الوزارات – تلك التي ما زالت تُفكّر بالطباشير في زمن الذكاء الاصطناعي –
تُصدر تعليماتها في نشراتٍ مطبوعة بخطّ مائلٍ إلى النوم
وتظنّ أن الجامعة مثل دائرةٍ حكومية يمكنها أن “تستوفى” بالتعميم.
وفي كل مرة تتحدث فيها عن “إصلاح التعليم العالي”،
تبدأ الخطة من بند “تقليص النفقات” وتنتهي بفقرةٍ مكررةٍ عن “تحفيز الابتكار”.
ابتكار ماذا؟ كيف تُبدع جامعةٌ لا تملك ثمن حبر الطابعة؟
في بعض الجامعات، تدفع الأقسام فواتير الكهرباء من إيرادات برامجها، اَ يمنع عليهم تشغيل المكيفات في الحر الشديد
والمدير المالي يحفظ جداول الدين أكثر مما يحفظ أسماء العمداء.
المباني تهرم، النوافذ تُغلق باللاصق، والسبورات تُكتب عليها استعاراتٌ منقرضة.
ومع ذلك ما زلنا نُرسل وفودًا إلى مؤتمرات “الريادة العالمية”،
ونلتقط صورًا جماعية تحت شعار “الاستدامة”،
كأنّنا نُقنع أنفسنا بأن الوردة البلاستيكية ما زالت تنبت.
وحين تتساءل الجامعة عن نصيبها من الدعم،
يأتيها الردّ من علٍ: “شدّوا الأحزمة وابتكروا مصادر دخل.”
فتُقيم مقصفًا هنا، ومزرعةً هناك، ومشروعًا استثماريًا يذوب قبل أن يرى الشمس.
فالذي يُدير المشروع لا يعرف من الاقتصاد إلا رسم الجدول،
ولا من الإدارة إلا توقيع الإجازات.
هكذا تتحوّل الجامعة من منارةٍ إلى “شركةٍ خاسرة”،
تبيع أفكارها القديمة لتسديد فواتير المستقبل.
أما الطالب، فقد أصبح الراكب الأخير في حافلةٍ بلا سائق.
يدفع الرسوم في بداية الفصل،
ثم يقضي فصوله كلها يحسب كم خسر من حماسه.
يدخل الجامعة ليحلم، ويخرج منها وهو يجيد شيئًا واحدًا: الانتظار.
الانتظار لوظيفةٍ لا تأتي، أو وطنٍ لا يسمع صوته.
وإذا حاول الأستاذ أن يصرخ،
جاءه التوبيخ المغلف بابتسامةٍ إدارية: “كُن إيجابيًا!”
وكأنّ الإيجابية تُشترى من دكان الشعارات.
ثم يُسأل: لماذا تهاجر العقول؟
وكيف لا تهاجر إذا صارت الرواتب “قروضًا على دفعات”،
والمكاتب بلا تدفئة، والمناهج بلا تحديث،
والكرامة بندًا قابلًا للتقسيط؟
المديونية ليست أرقامًا على ورق، بل أعراض مرضٍ إداريٍّ مُزمن.
حين تُدار الجامعة بذهنية الجابي لا بذهنية الباحث،
وحين يُقاس النجاح بعدد الفواتير المسددة لا بعدد العقول المنيرة،
فلا عجب أن يصبح العجز ثقافةً والبيروقراطية فلسفةً وطنية.
ولأنّنا أمّة تعشق المفارقات،
فقد أنشأنا “هيئاتٍ” تراقب التعليم،
و“مجالس” تُقيّم الأداء،
و“لجانًا” تدرس أسباب التراجع.
وبينما تكتب تلك اللجان تقاريرها في قاعاتٍ مكيفة،
تكون الجامعة التي تدرسها قد أطفأت التكييف لتوفير الكهرباء.
هكذا يُدار العقل في بلادٍ تحب الألقاب أكثر من الأفكار،
وتمنح الدرجات قبل أن تمنح المعرفة،
وتستدين لتحتفل بيوم العلم.
نرفع الشعارات كل عام، نُكرّم المتفوقين،
ثم نتركهم يبحثون عن وظائف في بلادٍ تعتبر الشهادة وثيقة هويةٍ لا وسيلة بناء.
لكنّ المشكلة ليست في المال وحده،
إنها في الرؤية التي تظن أنّ الجامعة “مشروع ربحي”،
وفي العقل الذي لا يرى من التعليم إلا أرقام الإنفاق.
العقل الذي يضع الفاتورة في جيب الفكرة،
ثم يسألها في نهاية الشهر: كم ربحتِ يا جامعة؟
لا تُنقذ القروض جامعاتٍ تفتقر إلى الفكر،
ولا يُصلح رفع الرسوم مؤسساتٍ فقدت البوصلة.
الإنقاذ يبدأ حين نعيد للجامعة معناها:
أن تكون بيتًا للفكر قبل أن تكون بندًا في الموازنة،
أن تُدار بعقل المبدع لا بعقل المراقب المالي،
وأن تُموّل كاستثمارٍ في الوعي لا كعبءٍ على الخزينة.
إنّنا بحاجة إلى ثورةٍ هادئةٍ في إدارة التعليم،
ثورةٍ تُعيد للعقل احترامه، وللجامعة مكانتها، وللوطن ذاكرته.
فلا تُقاس الأمم بما تملك من موارد،
بل بما تملك من عقولٍ تعرف كيف تُبدع بها.
وحين تُفلس الجامعة، يُفلس الوطن ولو أغدق عليه النفط والذهب.
وربما آن الأوان أن نُعلنها بصراحةٍ لا تُغضب أحدًا:
مشكلتنا ليست في قِلّة المال،
بل في كثرة الذين يظنّون أنفسهم أوصياء على العقل.
إنهم يُديرون الجامعات كأنها مدارس ابتدائية،
ويُديرون التعليم كأنهم يعلّمون الحروف لا الحياة.
وحين تفلس الجامعة بالحبر،
يفلس الوطن بالفكرة،
ويفلس الإنسان بالمعنى.

نيسان ـ نشر في 2025-10-19


رأي: د. وليد العريض

الكلمات الأكثر بحثاً