العقل العربي في مصحّ النقد الدائم
نيسان ـ نشر في 2025-10-30 الساعة 15:04
نيسان ـ هل يوجد أصلًا “عقل عربي” لننقده؟
سؤال يبدو بسيطًا، لكنه اليوم يشبه السؤال عن الأطلال في عصر الأبراج الزجاجية، أو عن الفرسان في زمن الكراسي الدوّارة.
فالعقل العربي، إن كان موجودًا يومًا، فقد دخل المصحّ منذ ألف عام ولم يخرج بعد.
يعيش على التنفس الاصطناعي للتراث، ويتغذّى من أنابيب الماضي، وتُدار حوله مؤتمرات بعنوان “العقل بين النقد والنكوص”، كأننا نتحدث عن جثةٍ تتنفس على الورق فقط.
في المشرق العربي يطغى علم المني وأدب المشايخ وفتاوى العصور الوسطى مغلّفةٌ بأناقة العصر الرقمي
وفي المغرب يسطع بضعة عقولٍ حرةٍ نادرة كنجومٍ في ليلٍ ملبّد — أمثال محمد عابد الجابري الذي شرّح العقل لا ليهينه بل ليحرّره، ووليد عبد الحي الذي رفع علم الاستشراف إلى مصاف الرؤية العلمية ومعهما قلة بعدد أصابع اليد الواحدة.
أما البقية، فهم ناقلون ومصفّقون ومستهلكون لأفكارٍ قديمةٍ يغيّرون أسماءها كل عقدٍ لتبدو جديدة.
لقد أصبح النقد العربي وظيفةً رسمية في وزارة الثقافة،
والفكر الأكاديمي طقسًا محفوظًا في استمارات الترقية.
أما “النخبة المثقفة” فتتحدّث عن التنوير وهي تعيش في عتمة الدرج الثالث من المجتمع:
تحت الطبقة السياسية التي تفكّر بالسلطة،
والطبقة الأمنية التي تراقب من يُفكّر
والطبقة الاقتصادية التي تشتري الاثنتين نقدًا.
ومن تبقّى من أساتذة الجامعات، والنقاد، والكتّاب، والرسامين، والصحافيين،
فقد انشغلوا بتجميل الوعي عبر “تك توك” و“ميت توك” و“لنك توك”،
يتحدثون عن الوعي بفلترٍ رقميٍّ يلمّع الجلد ويُخفي العجز.
إنهم يؤمنون أن الفكر يُقاس بعدد المتابعين،
وأن الشهرة دليل العبقرية،
حتى صار المثقف العربي يطلب من الخوارزمية أن تمنحه مكانته التي عجز عنها العقل نفسه.
أما في الجهة الأخرى من هذا الكوكب، فهناك العقل الغربي — ليس أكثر ذكاءً بالفطرة، بل أكثر حريةً في الممارسة.
عقلٌ لا يخاف من السؤال ولا يستحي من الخطأ.
عقلٌ ينتج الطائرة والمفاعل والمختبر والفكرة معًا.
هناك، الفيلسوف يُسائل السياسي، والسياسي يخضع للقانون،
والقانون يُطبّق قبل أن يُفسّر.
هناك، العقل ليس موظفًا عند السلطة، بل السلطة موظفةٌ عند العقل.
إنه عقل الورشة لا المنبر،
عقل الإنتاج لا التلقين،
عقل الديمقراطية لا الطاعة.
بينما نحن ما زلنا نناقش: هل التفكير حلال أم حرام؟
هل الفلسفة بابُ شكّ أم طريقُ يقين؟
هل يحقّ للطالب أن يسأل؟ وهل يحقّ للأستاذ أن يجيب؟
العقل العربي – أو ما تبقّى من رماده – أصبح “نظام تشغيل” قديم لا يقبل التحديث.
يُعيد إنتاج نفسه في كلّ جيل، يكرّر الأخطاء ذاتها ببلاغةٍ أفصح،
ويحتفل بالفشل كمنجزٍ حضاريٍّ قابلٍ للفهرسة.
لقد تجاوزنا مرحلة “العقل المستقيل”،
فنحن الآن في عصر العقل المسلّم استقالته رسميًّا وهو يبتسم أمام الكاميرا.
نعيش في زمنٍ صار فيه الجاهل جريئًا والمفكر خائفًا،
السطحي مشهورًا والعميق منسيًّا،
والأمة كلها تمشي في جنازة عقلٍ مات ولم يُعلنوا وفاته كي لا تتعطل الدروس في كليات الآداب.
هل يوجد عقل عربي؟
ربما، لكنه الآن موظفٌ في شركة دعاية،
يكتب تغريداتٍ فلسفيةً مدفوعة الأجر
ويُدرّس مادة “التفكير النقدي” وهو نفسه لا يجرؤ على التفكير.
لقد تحوّل “نقد العقل العربي” إلى فرعٍ من فنّ الكوميديا السوداء.
نضحك من عجزنا ونصفّق له،
نؤلف الكتب عن أسباب التخلف بينما نعيشها يوميًا في طوابير الخبز.
وحين يسألنا أحدهم عن الحل،
نجيبه بأناقة: “نحتاج إلى نقدٍ أعمق للعقل العربي.”
فنغلق الدائرة من جديد
ونعود إلى المصحّ الذي يحمل لافتةً براقة:
“العقل العربي: يُعالج منذ ألف عام… فهل يتماثل للشفاءقريبًا.؟”
سؤال يبدو بسيطًا، لكنه اليوم يشبه السؤال عن الأطلال في عصر الأبراج الزجاجية، أو عن الفرسان في زمن الكراسي الدوّارة.
فالعقل العربي، إن كان موجودًا يومًا، فقد دخل المصحّ منذ ألف عام ولم يخرج بعد.
يعيش على التنفس الاصطناعي للتراث، ويتغذّى من أنابيب الماضي، وتُدار حوله مؤتمرات بعنوان “العقل بين النقد والنكوص”، كأننا نتحدث عن جثةٍ تتنفس على الورق فقط.
في المشرق العربي يطغى علم المني وأدب المشايخ وفتاوى العصور الوسطى مغلّفةٌ بأناقة العصر الرقمي
وفي المغرب يسطع بضعة عقولٍ حرةٍ نادرة كنجومٍ في ليلٍ ملبّد — أمثال محمد عابد الجابري الذي شرّح العقل لا ليهينه بل ليحرّره، ووليد عبد الحي الذي رفع علم الاستشراف إلى مصاف الرؤية العلمية ومعهما قلة بعدد أصابع اليد الواحدة.
أما البقية، فهم ناقلون ومصفّقون ومستهلكون لأفكارٍ قديمةٍ يغيّرون أسماءها كل عقدٍ لتبدو جديدة.
لقد أصبح النقد العربي وظيفةً رسمية في وزارة الثقافة،
والفكر الأكاديمي طقسًا محفوظًا في استمارات الترقية.
أما “النخبة المثقفة” فتتحدّث عن التنوير وهي تعيش في عتمة الدرج الثالث من المجتمع:
تحت الطبقة السياسية التي تفكّر بالسلطة،
والطبقة الأمنية التي تراقب من يُفكّر
والطبقة الاقتصادية التي تشتري الاثنتين نقدًا.
ومن تبقّى من أساتذة الجامعات، والنقاد، والكتّاب، والرسامين، والصحافيين،
فقد انشغلوا بتجميل الوعي عبر “تك توك” و“ميت توك” و“لنك توك”،
يتحدثون عن الوعي بفلترٍ رقميٍّ يلمّع الجلد ويُخفي العجز.
إنهم يؤمنون أن الفكر يُقاس بعدد المتابعين،
وأن الشهرة دليل العبقرية،
حتى صار المثقف العربي يطلب من الخوارزمية أن تمنحه مكانته التي عجز عنها العقل نفسه.
أما في الجهة الأخرى من هذا الكوكب، فهناك العقل الغربي — ليس أكثر ذكاءً بالفطرة، بل أكثر حريةً في الممارسة.
عقلٌ لا يخاف من السؤال ولا يستحي من الخطأ.
عقلٌ ينتج الطائرة والمفاعل والمختبر والفكرة معًا.
هناك، الفيلسوف يُسائل السياسي، والسياسي يخضع للقانون،
والقانون يُطبّق قبل أن يُفسّر.
هناك، العقل ليس موظفًا عند السلطة، بل السلطة موظفةٌ عند العقل.
إنه عقل الورشة لا المنبر،
عقل الإنتاج لا التلقين،
عقل الديمقراطية لا الطاعة.
بينما نحن ما زلنا نناقش: هل التفكير حلال أم حرام؟
هل الفلسفة بابُ شكّ أم طريقُ يقين؟
هل يحقّ للطالب أن يسأل؟ وهل يحقّ للأستاذ أن يجيب؟
العقل العربي – أو ما تبقّى من رماده – أصبح “نظام تشغيل” قديم لا يقبل التحديث.
يُعيد إنتاج نفسه في كلّ جيل، يكرّر الأخطاء ذاتها ببلاغةٍ أفصح،
ويحتفل بالفشل كمنجزٍ حضاريٍّ قابلٍ للفهرسة.
لقد تجاوزنا مرحلة “العقل المستقيل”،
فنحن الآن في عصر العقل المسلّم استقالته رسميًّا وهو يبتسم أمام الكاميرا.
نعيش في زمنٍ صار فيه الجاهل جريئًا والمفكر خائفًا،
السطحي مشهورًا والعميق منسيًّا،
والأمة كلها تمشي في جنازة عقلٍ مات ولم يُعلنوا وفاته كي لا تتعطل الدروس في كليات الآداب.
هل يوجد عقل عربي؟
ربما، لكنه الآن موظفٌ في شركة دعاية،
يكتب تغريداتٍ فلسفيةً مدفوعة الأجر
ويُدرّس مادة “التفكير النقدي” وهو نفسه لا يجرؤ على التفكير.
لقد تحوّل “نقد العقل العربي” إلى فرعٍ من فنّ الكوميديا السوداء.
نضحك من عجزنا ونصفّق له،
نؤلف الكتب عن أسباب التخلف بينما نعيشها يوميًا في طوابير الخبز.
وحين يسألنا أحدهم عن الحل،
نجيبه بأناقة: “نحتاج إلى نقدٍ أعمق للعقل العربي.”
فنغلق الدائرة من جديد
ونعود إلى المصحّ الذي يحمل لافتةً براقة:
“العقل العربي: يُعالج منذ ألف عام… فهل يتماثل للشفاءقريبًا.؟”
نيسان ـ نشر في 2025-10-30 الساعة 15:04
رأي: د. وليد العريض


