الأمير تركي الفيصل وإعلان المرحلة الجديدة في العلاقات السعودية الأميركية
نيسان ـ نشر في 2016-03-21 الساعة 21:18
محمد قبيلات - العرب
في أحد مؤتمراته الصحفية التي أعقبت لقاء له مع وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، يروي الأمير السعودي تركي الفيصل قصة طريفة عن الرئيس الأميركي روزفلت حينما استقبل رئيس وزراء بريطانيا في بيته على سبيل الحفاوة والتكريم الزائد.
القصة ليست فقط ذات مغزى للعلاقة التي تربط الولايات المتحدة الأميركية بالمملكة المتحدة. هي أعمق من ذلك، ولم يكن الفيصل يعبث وهو يستحضرها.
يقول الفيصل إن روزفلت دخل إلى غرفة رئيس الوزراء البريطاني ليجده جالسا على الكرسيّ الهزاز، وهو عار تماما. روزفلت يرتد عائدا، وهو يرى ما يرى، لكن رئيس الوزراء البريطاني يوقفه. كأنه صرخ به: قف.. لماذا تعود.. ويصر عليه بالدخول ويقول له ممازحا يا فخامة الرئيس، رئيس وزراء بريطانيا ليس لديه ما يخفيه عن الولايات المتحدة الأميركية. من هنا تبدأ الحكاية، أو من هنا أراد لها الفيصل أن تبدأ.
لا للتقية الأميركية
يقول تركي الفيصل إنه قال لوزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس أنه تمنى أن تكون العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية هكذا. لا للتقية فيها من مكان. لا سر يشوب الغرف المغلقة.
تركي الفيصل هو ابن الملك فيصل بن عبدالعزيز، والمسؤول السعودي الأمني الأهم، الذي أدار أصعب الملفات الأمنية في تاريخ المملكة العربية السعودية إبان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وأشرف مباشرة على تنسيق العملية المضادة للسوفييت وبالتنسيق مع الأميركان.
هكذا غزل الفيصل خبراته الأمنية الكبيرة وهو من أشرف على عبور “الجهاديين” إلى أفغانستان منذ العام 1979 إلى أن رحل السوفييت عام 1988.
تعمدت خبرات الفيصل بالعديد من المهمات منها منصب سفير المملكة العربية السعودية في واشنطن. لهذا يرى فيه قومه “عين خبير” عندما يكون الحديث عن العلاقات السعودية الأميركية.
في هذا السياق، يمكن فهم لماذا هو تحديدا من كتب الرسالة المفتوحة الموجهة للرئيس باراك أوباما، ردا على حديثه الذي هاجم فيه السياسة السعودية.
من يريد أن يرسم خطوط العلاقات السعودية الأميركية باللونين الأبيض والأسود، لا بد وأن يخرج بنتائج مطلقة، لكنها غير صحيحة. عندما يحضر الحديث عن الماكينة السياسية السعودية عامة، فعلينا أن نحمل العديد من الأقلام الملونة. منها الأبيض، ومنها الأسود، لكن منها أيضا الأحمر والأخضر.
طريق الرياض واشنطن
ما فتئت العلاقة السعودية الأميركية تمرّ بمحطات من الجدل والاختلاف، مدّا وجزرا نقصانا وزيادة. وهذا ليس جديدا عليها، فهي على هذا الحال منذ البدء. في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. إنها علاقة محكومة بقاعدة ملء الفراغ منذ تأسيس المملكة في عهد الملك عبدالعزيز، حيث استدعى المؤسس الولايات المتحدة الأميركية لملء الفراغ الذي ستتركه بريطانيا العظمى التي ربما استشعر المؤسس أنها آيلة إلى أفول، وهذا ما انسجم مع المخططات الأميركية المتعلقة بالنفط وطرق وصوله إلى مخازنها.
تراوحت العلاقة بين صداعين، صداع وصل حد التهديد بتأميم أرامكو، الذي حدث لاحقا لكن تدريجيا. وصداع آخر يتعلق بالتحالفات التي لم تتوقف عند حد التنسيق الأمني والتحشيد، بل شنّ الحروب بالتضامن.
من اليمن إلى أفغانستان إلى العراق ثم العودة إلى اليمن مرة أخرى، وبين الصداعين صداعات ارتدادية شكّلها الربيع العربي في سوريا ومصر وليبيا والعراق واليمن وتونس.
بقوة المملكة الاقتصادية والمعنوية، استطاعت السياسة الخارجية السعودية أن تستوعب كل الهزات التي مرت بها منحنيات العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، حتى أحداث 11 سبتمبر تم تجاوزها مع أنها شكلت حالة غير مسبوقة من التوتر البيني، وصلت حد تحميل بعض مراكز القرار في واشنطن للمملكة العربية السعودية المسؤولية غير المباشرة عن الهجمات، بصفتها دولة تشجع أنماط التربية الدينية ما يشكل بيئة حاضنة مناسبة لنمو التيارات السلفية.
التحدي الإيراني
ما تتمتع به إيران أنها دولة تقدم نفسها على أنها زعيمة للطائفة الشيعية ومظلومياتها التاريخية، وتقاوم المخططات الأميركية والصهيونية، لذلك امتلكت غطاء أخلاقيا يوفّر لها العديد من الأذرع والمنظمات والتكتلات في الدول العربية التي تساعدها على تنفيذ أجنداتها في أكثر من دولة عربية ومن ضمنها اليمن ولبنان وسوريا، وهذا ما تفتقده السعودية في الحقيقة.
بينما الأذرع “المفترضة” للسعودية، على الحسابات الطائفية، متهمة بكونها غارقة في التطرف الى درجة التورط بالإرهاب، والقاعدة وأخواتها أوضح مثال على ذلك.
كما أن السعودية ترتبط بعلاقات معلنة مع أميركا والدول الغربية، ما يضعها بالمواجهة مع الخطابات الشعبوية التي تديرها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي ترمي إلى حشرها في خانة وإطار الحلف المعادي لمصالح الأمة الإسلامية.
هنا كان على السعودية مواجهة المشروع الإيراني، كونه يشكل تهديدا وجوديا يكاد ينسف العقد المعنوي، الذي نسجته سواء مع السعوديين أنفسهم أو مع الأمة الإسلامية، بصفتها قائدة للعالم الإسلامي.
لكن وبفعل الماكينة البيروقراطية للسياسة السعودية، ستعتمد الرياض على مواجهة النشاط الإيراني بالبيروقراطية الإدارية المعهودة، وبالطريقة المتراخية ذاتها التي تدير بها كافة الملفات الإقليمية.
بقي الحال على ما هو عليه طويلاً، بعد أن اكتفت السعودية بالانضمام وليس قيادة محور الاعتدال العربي، الذي طالما قادته دولة مثل مصر مبارك. إلا أن التهديد الإيراني المتزايد والذي وصل الى خاصرة الجزيرة العربية في اليمن ورقبتها في سوريا عجّل من الإفاقة.
المملكة أفاقت وإن متأخرة على التهديدات الإيرانية لكن وكأن في إفاقتها “صدمة” المتعجل لإنقاذ نفسه من السقوط في الهاوية، بعد أن اكتشف أن حبال إنقاذه تسرّبت واحدا واحدا مع الزمن. جزء من ذلك يفسر الصدمة المقابلة للآخر، بأن الرياض باتت تعتمد أساليب غير معهودة، ومنها تفجيرها لمفاجأة عاصفة الحزم.
اللافت في السياسة السعودية، حساسيتها من الموقف الأميركي، فرغم مرور أكثر من ثمانين عاما على العلاقات الحميمة المتبادلة، مازال هناك لبس في فهم آليات السياسة الأميركية، وكأن الطرفين ما زالا يرفضان أن يتعلّما لغة بعضهما البعض، واكتفيا بالإبقاء على الترجمان فيما بينهما.
هذا مجددا ما يفسر استمرار صدمة السياسي السعودي من المواقف الأميركية التي دائما ما يراها غريبة.
أشد هذه الحساسيات ظهرت حيال التعامل الأميركي مع الملف الإيراني، عندها أظهرت الإدارة الأميركية تسامحا من نوع ما مع النظام الثيوقراطي الإيراني، ففزع السعوديون مصدومين ليتوجه من فوره الأمير تركي الفيصل برسالة واضحة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي، يذكّره فيها أن إيران ما زالت ترفع الشعارات ذاتها ضد الأميركان في إشارة إلى وصفها لهم بالشيطان الأكبر.
تأتي رسالة تركي الفيصل ضمن إطار إعادة تأسيس العلاقة السعودية الأميركية، من خلال التعامل بفهم جديد مع ميكانيزمات صناعة القرار الأميركي. فهل فهم السعوديون أخيرا الأميركان؟
ليس بعيدا عن ذلك، إنشاء لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأميركية “سابراك” التي تم تأسيسها مؤخرا في واشنطن، ووصفها البعض أنها اللوبي السعودي في الولايات المتحدة الأميركية، تشبه بوظيفتها اللوبي اليهودي “أيباك”، ولوبيات أخرى ضاغطة لصالح الدول والمحاور.
لحظة الحقيقة
إنها حلقة من حلقات لعبة الأمم، اقتضت تأسيس الادارة السعودية الجديدة للعلاقة مع الإقليم خارج السياقات الأميركية، فبعد ما جرى في العراق وكيف أن أميركا سلمته لإيران، وبعد ما أظهرت الإدارة الأميركية تساهلاً مع الإخوان المسلمين في مصر، وبعد كل هذا اللين مع المشروع النووي الإيراني، كان لا بد من إعادة لصياغة السياسة التي تتعامل بها السعودية مع المحيط ومع الأميركان أنفسهم.
ففي لعبة الأمم كما في لعبة الشطرنج، يجد اللاعب نفسه، أحيانا، أمام حركات إجبارية تأخذه إلى ساحات ومعارك مفروضة عليه ولا مناص له منها.
هي لحظة الحقيقة التي تستوجب النشوء الإجباري للمشروع العربي الجديد، مشروع يتخلّق بفعل التحديات الوجودية التي فرضتها سياقات طالما تعاطى معها النظام العربي بالقفازات المستوردة، أو بأوهام خلق توازن مستورد على شكل قواعد عسكرية أجنبية كبديل عن بناء القوة الذاتية.
استطاعت الإدارة السعودية الجديدة أن تحسم الكثير من الأمور، وبسرعة لم يتوقّعها أحد. أغلقت النقاش في الملفات وذهبت للتنفيذ فورا، ولأول مرة تنتقل السعودية من دور الممول لمشاريعها السياسية والاستراتيجية إلى جهة المنفّذ دون وسطاء، فأظهرت هذا الحزم بشكل واضح في اليمن، ما قطع الطريق على المخططات الإيرانية التي كانت على وشك أن تسلخ اليمن وتأخذه إلى مجالاتها.
إنه تعاطٍ من نوع جديد تمارسه الإدارة السعودية مع الواقع والأحداث، يرتكز بدءا من فهم جديد يسقط من حساباته الاعتماد على القوى الدولية والاتجاه إلى نزع الشوك من اليد باليد. لكن الجميع هنا يسأل عن “آخر الشوط”.
أميركا تاريخيا تعتمد في بناء سياساتها على المصالح البحتة غير آبهة بمشاعر الشركاء. لقد كانت أول من أثار القلاقل في إيران ضد حليفها التاريخي الشاه، وظلت تتعاطى مع نظام حكمه بتأثير من هواجس ثورة مصدق، فأثارت قضايا وملفات حقوق الإنسان، وكأنها لم تكن تعي بعد، وتحت تأثير العداء للشيوعية، مخاطر اللعب بنار الأديان.
تعاملت مع حليفها نظام حسني مبارك، وقبل خطاب أوباما التاريخي في جامعة القاهرة ظلت السفارة الأميركية في القاهرة على تواصل مع جماعة الإخوان المسلمين، ولم تمرّ مناسبة إلا وطرحت قضايا حقوق الانسان وقضية حقوق الأقباط وغيرها، وامتد هذا التعامل ليشمل مرحلة حكم العسكر في مصر.
ربما كان هذا ما صاغ سؤال الأمير تركي الفيصل في رسالته لأوباما “هل هذا نابعٌ من استيائك من دعم المملكة للشعب المصري، الذي هبّ ضد حكومة الإخوان المسلمين التي دعمتها أنت؟”.
وجها لوجه
سؤال يناقش الموقف الأميركي الجدلي من حكم الإخوان، لكنه يعود بنا الى المربع الأول في فهم السلوكات المعقدة التي يسلكها العقل الأميركي، وطريقة فهمه وتعامله مع الأمور، فهو عقل لا يحفّزه إلا وجود عدوّ، فإن لم يوجد أوجده، وهذا ما هداه إليه صموئيل هنتينغتون بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة.